لقد أخذ هؤلاء على شخصي المتواضع أنني “أقترفتُ” مؤخراً كتابات رومانسية وخواطر غَزَلية وقصائد موضوعها العشق والهيام، في ظل حرب داخلية طاحنة وعدوان خارجي غاشم ومجاعة وضحايا وخراب يعم البلاد! حين تنبري لغة المزايدة على منتوج القلم -في الأدب والصحافة- من منطلق أن الظرف القائم (سياسياً، أمنياً، اجتماعياً، أو اقتصادياً) لا يحتمل كلاماً عن الحب مثالاً، أو الورد أو الموسيقى.. فاْعرف أن عيادات الأمراض النفسية عاطلة عن العمل!
يقولون لك إن غالبية الناس تفكر ليلاً ونهاراً في طريقة الحصول على رغيف الخبز.. أو أنها تضرب أخماساً في أسداس لتدبير مصروف المعيشة أو ايجار السكن أو رسوم المدارس.. وفي وضع بائس كهذا، ينبغي أن “تتجنّد” الأقلام للكتابة الواقعية المُمرّغة بالهَمّ الانساني اليومي، بعيداً عن الأصداف الرومانسية والأطياف الشاعرية.
ويغفل هؤلاء عن حاجة روحية للانسان في موازاة حتمية لحاجته المادية.. يغفلون عن اقتران شَرْطي بين جوع الروح وجوع الجسد، أو حاجة الأبدان وحاجة الوجدان.
لقد أخذ هؤلاء على شخصي المتواضع أنني “أقترفتُ” مؤخراً كتابات رومانسية وخواطر غَزَلية وقصائد موضوعها العشق والهيام، في ظل حرب داخلية طاحنة وعدوان خارجي غاشم ومجاعة وضحايا وخراب يعم البلاد!
وإذا كان أحدهم قرأ الأدب الروسي أو الفرنسي أو الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، أو الأدب الاسباني خلال الحرب الأهلية وحكم فرانكو، أو الأدب التشيلي خلال عهد بينوشيه، أو الأدب الألماني خلال حكم النازية، أو الأدب الايطالي خلال حكم الفاشية، أو الأدب الأمريكي خلال حرب الاستقلال، أو الأدب الفلسطيني في ظل الاحتلال الصهيوني، أو الأدب اللبناني خلال الحرب الفصائلية -الطائفية ثم الاجتياح الاسرائيلي، وأولاً وأخيراً: الأدب اليمني خلال الاستعمار البريطاني والحكم الامامي.. فأنه لن يجد كل القصائد مُخضّبة بالبارود، أو جميع القصص مُطرّزة بالرصاص، أو الخواطر مُزنّرة بحزام ناسف ومُكلّلة بعناقيد الدم والدموع.. بل سيجد عدداً غير قليل من منتوج القلم -ولو لحظياً- وطأة الظرف التاريخي القائم أو الوضع الواقعي المتأزّم، وراح يطرب في ملكوت الطبيعة، مُستلهِماً من اختلاجاتها المتنوعة وتلاوينها المتعددة صوراً في غاية الرومانسية، تُلهب الوجدان وتُوقد المشاعر بأرق العواطف.
لكن يبدو أن الرفيق ستالين لا يزال يجلس بجانبي!
ذات يوم، وقعت يد جوزيف ستالين على مخطوطة -جاهزة للنشر- لمجموعة شعرية لشاعر روسي يتغنّى بعشقه المُتوهّج تجاه حبيبته الجميلة. غير أن الزعيم السوفياتي لم يجد ثمة حاجة عند الناس إلى قراءة مثل هذا “الهُراء”! .. فقد أعتبرها مشاعر شخصية جداً، بعيدة عن أحاسيس الجماهير واحتياجات العمال والفلاحين وسائر الكادحين.
فماذا فعل الديكتاتور العظيم تجاه تلك الأشعار التي تقطر عشقاً وورداً وموسيقى؟
لقد أمر بطباعة نسختين فقط من المجموعة الشعرية.. واحدة للشاعر، والأخرى لحبيبته!
المصيبة الغاشمة أن ستالين هذا (وهذه معلومة ربما لا يعرفها كثيرون) كتب الشعر وأبدع فيه -في شبابه- وله مجموعة شعرية طُبعَ منها عدد كبير من النسخ، وليس نسختين فقط!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.