أول الأخطاء في النظر إلى تلك الروايات الآحادية هو تسميتها بغير التسمية الدقيقة لها، إذ يخلطون بين خبر الآحاد أو حديث الآحاد وبين السنة، فيرادفون بين اللفظين على عكس ما كان سائدا قبل الإمام الشافعي والذي رادف –في كتابه الرسالة- بين مصطلحي خبر الآحاد والسنة. كنت قد تحدثت من قبل في الحلقات العشر الماضية عن السؤال الأول في مشكلة الحديث وهو السؤال المتعلق بما صدر عن النبي عليه السلام من قول خارج النص القرآني -عدا السنة العملية المتواترة – هل هو وحي أم لا ؟ وإذا لم يكن وحيا فما هو إذن؟ وكيف تعامل معه صحابته المؤمنون في زمنه؟ وكيف سيتعامل معها من جاء بعدهم؟ وقد أجبت بتركيز شديد على هذا السؤال فيما مضى من الحلقات، وفي هذا السلسلة سأحاول الإجابة على السؤال الثاني في مشكلة الحديث وهو المتعلق بالروايات الموجودة اليوم في كتب الحديث من قول منسوب للنبي عليه السلام؟ هل يمكن أن نجزم بأن النبي قالها؟ وإذا لم يمكن الجزم بذلك فكيف نتعامل مع هذه الكتب اليوم؟
سأتحدث أولا عن ثلاثة أخطاء صارت متداولة بين الناس عن الروايات المدونة في كتب الحديث، باعتقادي أن تلك الأخطاء هي التي صنعت الغبش في التعامل مع تلك الروايات.
أول الأخطاء في النظر إلى تلك الروايات الآحادية هو تسميتها بغير التسمية الدقيقة لها، إذ يخلطون بين خبر الآحاد أو حديث الآحاد وبين السنة، فيرادفون بين اللفظين على عكس ما كان سائدا قبل الإمام الشافعي والذي رادف –في كتابه الرسالة- بين مصطلحي خبر الآحاد والسنة، وقد استفاض الدكتور طه جابر العلواني في بحث نشره على مجلة إسلامية المعرفة (39) في التفريق بين اللفظين، يقول العلواني بعد نقله لعبارات كثيرة تفرق بين السنة والحديث “كل هذه النقول تدل على أنه حتى بدايات القرن الهجري الثاني لم يشع استعمال مفهوم “السنة” في “الأخبار والأحاديث” بل في أمور تطبيقية وعملية وفعلية واظب رسول الله (ص) عليها, وداوم فعلها وتكرارها حتى صارت طريقة له في العمل والحياة وفهم الناس من ذلك أنهم مندوبون إلى متابعته فيها. أما استعمال “السنة” في كل ما أضيف إلى رسول الله (ص) من قول أو فعل أو تقرير فذلك أمر شاع وانتشر بعد عصر التدوين الرسمي للمعارف الإسلامية في عهد المنصور, وجرى تداوله بعد ذلك. ولم يأخذ شكلاً مستقراً حتى بعد ذلك..”.
والخطأ الثاني برأيي هو ادعاء أن كتب الحديث الموجودة بين أيدينا تحتوي على أحاديث قولية متواترة، وهذا يخالف ما اشتهر عند المحدثين فابن حبان وهو أحد كبار المحدثين يقول: “فأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد لأنه ليس يوجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر من رواية عدلين روى أحدهما عن عدلين وكل واحد منهما عن عدلين حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم”. فكل ما بين أيدينا اليوم هو من أخبار الآحاد بما في ذلك روايات البخاري ومسلم، حتى وإن كانت في أعلى مراتب الدقة التاريخية، لكنها أيضا من أحاديث الآحاد ولم يقل أحد أنها متواترة، وإنما حاول المتأخرون إهالة القداسة عليها لترسيخ مذهب ما بمقولات غير علمية، كالشهرة والاستفاضة وتلقي الأمة لها بالقبول وغير ذلك من المسميات.
يتحدث الشيخ محمود شلتوت عن هذه المشكلة بقوله: “ويجدر بنا بعد هذا أن نعرض لظاهرة غريبة شاعت في الناس، وإن الحق ليتقاضى فيها واجبه من العلماء المسئولين أمام الله وأمام الرسول: تلك الظاهرة هي أنه على الرغم مما قرره العلماء في شأن المتواتر تحديداً ووجوداً، وعلى الرغم من هذا التحفظ الشديد في الحكم لحديث مما دون في الكتب بالتواتر ـ نرى بعض المؤلفين قديماً وحديثاً يسرفون في وصف الأحاديث بالتواتر، وقد يقتصدون فيخلعون عليها أوصافاً أخرى كالشهرة والاستفاضة والذيوع على ألسنة العلماء، وتلقى الأمة إياها بالقبول والثبوت في كتب التفسير وشرح الحديث، أو في كتب التاريخ والمناقب… الخ. وقد يشتط أناس في سلوك هذه السبيل، فنراهم يتتبعون مع هذا أسماء الصحابة والتابعين والأئمة والمؤلفين الذين جرى ذكرهم على ألسنة النقلة في رواية الحديث، وهم يعلمون أنها روايات ضعيفة لا تصبر على النقد، وأن هذه الأسماء التي يحرصون على جمعها توجد في كل حديث حتى في الأحاديث الموضوعة، ولكنهم مع ذلك يجمعونها، ويجتهدون في عدها وإحصائها وذكر الكتب التي اشتملت عليها لأنهم يريدون أن يخطفوا أبصار العامة، ويستغلوا عاطفتهم الدينية، ويزعموا لهم أن هذا الحديث أو تلك الأحاديث قد وردت عن نبيكم في هذه الكتب الكثيرة، وعلى لسان هذا الجم الغفير من الرواة بين صحابة وتابعين، فهي متواترة لاشك في تواترها، وهي متصلة بالرسول لاشك في اتصالها، ومن حاول الطعن فيها؛ أو الحط من درجتها، فقد ضل ضلالاً بعيداً، وحاد عن سبيل المؤمنين!” (الإسلام عقيدة وشريعة).
فالسنة المتواترة كما يعرفها الأصوليون: “هي ما رواه في كل عصر -منذ عصر الصحابة- جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، لكثرتهم وتباعد أماكنهم -مما تتناوله أبصار الناس وأسماعهم. وأكثر ذلك من السنن الفعلية، كالذي روي في كيفية الوضوء والصلاة والصوم والحج وغير ذلك، مما يطلع عليه جمهور الناس، فينقله جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب إلى أمثالهم، ثم ينقله عن هؤلاء أمثالهم… وهكذا. ويندر أن تكون من السنن القولية، وقد مثلوا لها بقوله (ص) (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)” (انظر أصول التشريع الإسلامي للشيخ علي حسب الله).
وبحسب هذا التعريف لا نكاد نجدا حديثا قوليا متواترا واحدا وهو ما ذهب إليه ابن الصلاح إمام مصطلح الحديث حيث يقول: “ومن سئل عن إبراز مثل لذلك –أي المتواتر- فيما يروى من الحديث أعياه تطلبه”. ثم ناقش ما يضرب به المحدثون من مثل لذلك المتواتر اللفظي بحديث “من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار” على أنهم غير متفقين بأنه من المتواتر اللفظي، إذ اختلفوا فيه هل يصل لدرجة التواتر أم لا، كما اختلفوا على إضافة كلمة “متعمدا” فبعضهم رآها زائدة وليست من أصل الحديث.
والخطأ الثالث في النظر إلى هذه الروايات هو اعتبارها قطعية تفيد اليقين، مع العلم أن غالبية الأصوليين يرونها ظنية الثبوت ومن ثم فهي لا تفيد اليقين.
يقول شلتوت “أما إذا روى الخبر واحد، أو عدد يسير ولو في بعض طبقاته، فإنه لا يكون متواتراً مقطوعاً بنسبته إلى رسول الله (ص)، وإنما يكون (آحاديا) في اتصاله بالرسول شبهة، فلا يفيد اليقين”. وقال البزدوي: “وأما دعوى علم اليقين ـ يريد في أحاديث الآحاد ـ فباطلة بلا شبهة لأن العيان يرده؛ وهذا لأن خبر الواحد محتمل لا محالة، ولا يقين مع الاحتمال، ومن أنكر هذا فقد سفه نفسه وأضل عقله”. وقال الغزالي: “خبر الواحد لا يفيد العلم وهو ـ أي عدم إفادته العلم ـ معلوم بالضرورة. وما نُقل عن المحدثين من أنه يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علما”. وقال الأسنوي: “وأما السنة فالآحاد منها لا يفيد إلا الظن”.
والنقول التي تتحدث عن ظنية ثبوت الآحاد كثيرة جدا، ولم يخالف فيها –بحد علمي- إلا أحمد في رواية عنه، وابن حزم، ثم صار ذلك مشهورا بعد انتصار مدرسة الحديث المعاصرة التي جاء على رأسها الشيخ الألباني.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.