أديب يمني: الشعر انعكاس للجوهر الذاتي وتفاعل مع النفس والوجدان
يسعى الشاعر والروائي اليمني همدان زايد دماج في تجربته الإبداعية أن يقدم رؤية فارقة في كل من الشعر والسرد، فاهتمامه بالمفردة وتركيبته الأسلوبية ومعالجاته الإنسانية لما يعتمل به المجتمع اليمني ومجتمعه العربي من قضايا تلقي بظلالها على الذات في رؤيتها للعالم، الأمر الذي شكل له نسجه الخاص. يمن مونيتور/ميدل ايست اونلاين
يسعى الشاعر والروائي اليمني همدان زايد دماج في تجربته الإبداعية أن يقدم رؤية فارقة في كل من الشعر والسرد، فاهتمامه بالمفردة وتركيبته الأسلوبية ومعالجاته الإنسانية لما يعتمل به المجتمع اليمني ومجتمعه العربي من قضايا تلقي بظلالها على الذات في رؤيتها للعالم، الأمر الذي شكل له نسجه الخاص.
وعلى الرغم من جمعه بين الشعر والسرد حيث أصدر مجموعتين قصصيتين بعنوان “الذبابة” و”ربما لا يقصدني”، ورواية بعنوان “جوهر التعكز” التي فازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي، إلا أن حوارنا معه كان حول الشعر بداياته وتجلياته خاصة أن ديوانه الأول “لا أحد كان غيري” كان نثريا.
بداية وحول تجربته الشعرية؛ ولادتها ومراحل تطورها، قال: أول قصيدة نُشرت لي كانت في صحيفة “الثورة” اليومية، بعنوان “دعني أتحدى وأقاتل” عام 1990؛ لكن قبلها كنتُ قد كتبت ـ خلال دراستي الثانوية ـ محاولات شعرية متواضعة أخفيت معظمها في دفتر صغير، بجانب محاولاتي السردية الأولى. كان من الصعب أن تعرضَ محاولاتك الكتابية في تلك الفترة على الأصدقاء وأبناء العمومة؛ خشية التهكم، الذي كان سلاحنا المعتاد ضد كل من تسول له نفسه أن يكتب شعراً أو أدباً، نحن الذين عشنا وتربينا في بيئة تموج بالأدب والشعر وحبهما.
كنتُ حينها في السابعة عشرة من العمر، وكان نشر القصيدة في أكبر صحيفة يومية في البلاد آنذاك إنجازاً عظيماً وتحدياً كبيراً لمبتدئ مثلي، كما أنه شكل أيضاً البداية الحقيقية لعلاقتي بفن الكتابة عموماً، وكسراً لحاجز التردد. كان والدي ـ الروائي زايد مطيع دماج ـ هو الذي دفع بتلك القصيدة إلى الصحيفة، بعد أن أثنى عليها صديقه شاعر اليمن الكبير د. عبدالعزيز المقالح وأجازها.
بعدها نشرتُ عدداً من القصائد الأخرى في صحف يمنية، ولاحقاً في صحف عربية، وكانت معظمها تحظى بالقبول والتشجيع من الوسط الأدبي في اليمن، الذي كان يعيش حالة انتعاش حقيقي بعد تحقيق الوحدة اليمنية، خاصة من أولئك الذين كنتُ أعرفهم شخصياً: د. عبدالعزيز المقالح (الذي كان وما يزال الأب الروحي لعدد كبير من الشعراء في اليمن)، محمد عبدالسلام منصور، خالد الرويشان، كمال أبو ديب، والعم أحمد قاسم دماج، وغيرهم من الأساتذة والشعراء.
ولفت دماج إلى أن أول عمل سردي نشر بعد ذلك بثلاث سنوات، وهو قصة قصيرة بعنوان “الذبابة”، لاقت ترحيباً كبيراً جداً لم أكن أتوقعه. كنتُ حينها في السنة التحضيرية في جامعة ريدنغ البريطانية، وكنتُ منشغلاً بتلمس أولى خطواتي في بحر التخصص التقني، ووجدت نفسي في متاهات معرفية كبرى، محاولاً التوفيق اليائس بين علوم الحاسوب باللغة الانجليزية، وبين الشعر والقصة باللغة العربية، بين المنطق الرياضي والخوارزميات، وبين الخيال المنطلق بلا حدود. بالنسبة لي لم يكن الأمر سهلاً مقارنة بالبعض، وكنتُ أشعر بوطأة التناقضات الكابحة.
• قصيدة النثر
وأضاف في تلك الفترة كنت قد بدأت رويداً رويداً أستعذب قصيدة النثر، وكنتُ لا أتردد في خوض تجارب كتابية تمزج بين أنواع الكتابة الشعرية، وإن تكلل بعضها بالفشل. وهكذا واصلت الكتابة الشعرية خلال أعوام الدراسة وما بعدها. وفي عام 2013 صدر ديواني الأول بعنوان “لا أحد كان غيري”، الذي احتوى على عدد من القصائد المختارة.
ورأى دماج أن الشعر، كما يفهم، “هو انعكاس للجوهر الذاتي، وتفاعل النفس والوجدان، وبالتالي تكون مجمل المفاهيم والرؤى والتجارب التي تشكل شخصية الإنسان هي نفسها التي تحدد منطلقاته في الكتابة الإبداعية. لهذا تجد أن التغيرات في هذه المفاهيم والتجارب الشخصية تنعكس في نتاجها من النصوص، سواء من حيث المضمون الشعري أو الشكل الكتابي.
ستجد في الديوان مثلاً قصائد تتحدث عن اللانهائية وحدود الكون والأسئلة الوجودية، وهي قضايا ربما كنت مشغولاً بها في تلك الفترة، وأخرى وجدانية أو سياسية مباشرة. وهكذا. كما ستجد أيضاً تنوعاً في الأساليب الكتابية، منها ما كان انعكاساً لرغبة تجريبية، ومنها ما كان مرتبطاً بالموضوع أو القضية التي يطرحها النص.. بعبارة أخرى، كانت محددات الكتابة الشعرية بالنسبة لي ذاتية وتلقائية، ولم تكن مدروسة. وأحسب أن هذا هو السائد في الكتابة الإبداعية حسب ما أعلم”.
• انهيار المنظومة التعليمية
وعلى الرغم من كتابته لقصيدة النثر إلا أن دماج أكد أن من راهنوا على اختفاء القصيدة العمودية وقدرتها على البقاء أدركوا أنهم خسروا الرهان؛ وقال “حضورها اليومي بين الناس، وكذلك ظهورها الإعلامي الراهن في مختلف الوسائط والقنوات الفضائية، يفوق كثيراً حضور القصيدة الحرة أو القصيدة النثرية. طبعاً، إلى جانب جوهرها الشعري والموسيقي المتجذر في الذات العربية، هناك عوامل عديدة ساهمت في الحضور الواضح للقصيدة العمودية اليوم، منها انهيار المنظومة التعليمية العربية المعاصرة، وما ترتب عليه من انحسار للمشروع الثقافي العربي التجديدي برمته.
وأضاف: إنني أعتقد أن ظهور القصيدة العربية الحرة بمختلف أنواعها، بما في ذلك قصيدة النثر، كان انعكاساً مباشراً لحالة من التطور المجتمعي والاقتصادي والحداثة الفكرية والثقافية التي عاشها الوطن العربي لعقود من الزمن، قبل أن يتوقف هذا التطور، وترتد هذه الحداثة على عقبيها.
بالتأكيد، يستطيع النص الشعري في القصيدة العمودية أن يكون حداثياً، وهناك نماذج كثيرة، ودراسات تعنى بهذا الأمر؛ لكن للأسف ما تزال الذائقة الشعرية لمتلقي قصيدة العمود تراوح في مكانها التقليدي، وما يزال أغلب المنتوج الشعري المتداول من القصيدة العمودية كلاسيكياً قديماً، يزاحم بيأس آلاف الأبيات الشعرية العظيمة الموروثة من أكثر من ألف عام”.
• المشهد الشعري اليمني
وأشار دماج إلى أن المشهد الشعري في اليمن يمر بالظروف نفسها التي يمر بها المشهد الشعري العربي عموماً، مع بعض الخصائص المتوقعة بالتأكيد؛ منها على سبيل المثال الحضور القوي والمتصاعد لقصيدة العمود من قبل عدد من الشعراء الشباب المتميزين، والذين سجل بعضهم حضوراً عربياً لافتاً في المحافل الشعرية وبرامج المسابقات الشعرية في القنوات الفضائية. ومن هؤلاء الشعراء من أخذ على عاتقه محاولة التجديد في النص العمودي، سواء من حيث عصرنة الموضوع الشعري أو تحديث الألفاظ والتراكيب اللغوية
كما نجد في المقابل استمرارية واضحة لعملية التجديد والتجريب في الكتابة الشعرية اليمنية المعاصرة على أيدي عدد آخر من الشعراء، سواء من حيث المضامين الشعرية أم من حيث الأشكال والتقنيات الكتابية المختلفة، وهم يقفزون في بعض الأحيان قفزات كبيرة في هذا المضمار، ويحققون نجاحات تفوق ما يحققه أقرانهم من الشعراء في الوطن العربي، على الرغم من أن الأوضاع العامة التي يمر بها اليمن، من حرب أهلية وحالة معيشية واقتصادية منهارة، لا تساعد للأسف في إعطاء هذه الجهود والنجاحات حقها من التقدير والاعتراف.
• أزمة المتلقي وليس الشعر
ورفض دماج أن الشعر العربي بذاته في أزمة؛ وقال “أيضا لا أعتقد أنه كان مأزوماً في يوم من الأيام؛ لكن الإنسان العربي (القارئ/ المتلقي) هو الذي في أزمة اليوم؛ أزمةٌ تفوق كل الأزمات الأدبية والثقافية؛ أزمةٌ حضارية وإنسانية عميقة. كيف يمكن للفنون والآداب أن تزدهر والقارئ/ المتلقي تطحنه الأزمات ويصطاده الموت والخراب؟! أنا لا أتحدث عن القارئ/ المتلقي العربي في الدول التي تشهد صراعات دموية وحسب، بل القارئ/ المتلقي العربي في كل مكان على وجه البسيطة.
ورأى أن للنقد الأدبي العربي عموماً إشكالياته التي يستطيع أن يتحدث حولها الباحثون والمختصون، ومن ضمن ذلك النقد الشعري.
أستطيع القول إن انحصار الأطروحات والسجال النقدي في فضاء محدود من المختصين والنقاد ساهم في توسيع الهوة بين الطرح النقدي وبين المبدع كمنتج للنص، وكذلك، وبالأهمية نفسها، بينه وبين القارئ/ المتلقي. بعبارة أخرى، لمن يكتب النقاد العرب اليوم؟ هل يتابع المبدعُ الإنتاجَ النقدي ويتفاعل معه؟ هل يصل النقدُ العربي، أو حتى شذرات منه، إلى القارئ/ المتلقي؟ هذه إشكاليات كبرى. هذا بالإضافة إلى الإشكاليات الذاتية الطبيعية للنقد العربي.
من المؤكد أن الناقد العربي هنا، مثله مثل المبدع، ضحية للواقع المعرفي والثقافي المتدني للمجتمعات العربية؛ لذا يمكننا القول بأن النقد العربي ما يزال متأخراً مقارنة بمدارس النقد الأدبية العالمية، إلا أنه، نوعاً ما، يواكب قدر المستطاع الحركة الشعرية العربية، على الأقل في ما تتعرض له مجتمعاتها من تحديات مصيرية كبرى.
• نماذج من قصائد الديوان
“حكايات”
جمجمتي مترعةٌ
بليل وحكايات
وبأفكار سوداء
تنهال على الرؤيا
زوبعة لرمال الوقت
وأنين دماغ مسعور
تعصر ذاكرتي أوهامُ الصيف
ونشيج هراء ووصايا
تدوي في سمعي أرصفة الحزن.
– “انتظرتكِ”
جاءني صوت بعيد
تسابق فراشاتُه
صهيلَ الظمأ
يا ليلي
سَئمتُ الواحد في داخلي
ففتشتُ عنكِ
أقلبُ صفحاتِ المدينة
أبعثرُ أكوام الخريف
أتحسسُ جيب الملل
صرختُ :
سئمتُ الواحد في داخلي
سئمتُ المرايا ووجهَ السكون
سئمتُ الحبيب الذي لا يجيب
سئمت الحبيب الذي
لم يكن يوماً حبيبْ.