يكون الأديب صادقاً حدَّ التمزق وهو يسرد ذكرياته أو مذكراته عن تجربته في الحزب. وتأتي هذه الشهادة كوثيقة مكتظة بالحقيقة، لأنها جاءت من داخل البيت، محتشدة بتفاصيله وأسراره.. وعلى العكس من ذلك أحاديث خصوم الحزب، القابعين خارجه والذين لم يطأوا يوماً عتبة بابه! إذا غضب الله على الأديب، جعله ينضم إلى حزب.. وإذا رضيَ عنه، دعاه إلى الخروج من الحزب.
وهذا رأيي الشخصي النابع عن تجربة ذاتية طويلة ومعقدة.. غير أنه لا يعني بالضرورة موقفاً مضاداً للأحزاب والتحزُّب والحزبيين.
ويكون الأديب صادقاً حدَّ التمزق وهو يسرد ذكرياته أو مذكراته عن تجربته في الحزب. وتأتي هذه الشهادة كوثيقة مكتظة بالحقيقة، لأنها جاءت من داخل البيت، محتشدة بتفاصيله وأسراره.. وعلى العكس من ذلك أحاديث خصوم الحزب، القابعين خارجه والذين لم يطأوا يوماً عتبة بابه!
تأسيساً على هذه القاعدة، يمكننا قراءة كتاب “كنتُ شيوعياً” للشاعر العظيم والحزبي الخايب بدر شاكر السياب.
والسياب كان من أوائل المثقفين العرب الذين تحزَّبوا فتخرَّبوا -ذهنياً ونفسياً وابداعياً- ما دَعَتْهم تجربتهم القاسية في كَنَف (أو كَفَن) أحزابهم إلى الخروج العظيم إلى الهروب الكبير!
ولستُ هنا بصدد عرض الهموم والأحزان والانتكاسات التي أصابت السياب في تجربته الحزبية، وهي كثيرة.. إنما أكتفي بعرض واحدة منها، تكفي لاثبات جوهر المقال في هذا المقام.
أحبَّ بدر إحدى رفيقاته في الحزب الشيوعي العراقي. كان اسمها مادلين. وكانت يهودية. وكانت حسناء. وقد سلبتْ لُبَّه واستحوذت على قلبه.. إلى أن جاء يوم اختفت فيه حبيبته مادلين، وطال اختفاؤها.. ثم جاءه الخبر -الصاعقة: لقد أفتتن بها الرفيق الأمين العام، يومها، (بهاء الدين نوري)، فأودع رحمها النضالي جنيناً بلشفياً!
وبعد بضعة شهور، وضعت مادلين في المهد صبيا، فأطلق عليه السياب صفة “ابن الحزب”!
وفي مذكراته التي تنضح سخريةً وتقطر مرارةً، يقول بدر: “توسَّلنا الجنس، ولجأنا إلى مجالس الخمر، من أجل الترويج للشيوعية”!
ويضيف بالحسرة ذاتها: “من المعروف جيداً لدى الناس أن هناك مَطْعَنَيْن اثنين يُوجَّهان إلى الشيوعي في كل زمان ومكان هما أنه ملحد وإباحي. فكان الأجدر بالشيوعيين -أو بقادتهم على الأقل- أن يبتعدوا ما وسعهم عن الجنس وفضائحه، وألاَّ يتطرقوا إلى ما يمس بالأديان”!
وحكى السياب كثيراً من الأمور التي صدمته خلال خوضه هذه التجربة، وبضمنها اعتراف حزبه بتقسيم فلسطين -على سبيل المثال- استناداً على تعريف ستالين للقومية، وهو ما يقود إلى حتمية الاعتراف بشرعية حصول اليهود على وطن قومي في فلسطين!
كما يسخط بدر على الحَجْر الفكري أوالحَظْر الثقافي الذي كان يفرضه الحزب على قراءات ومعارف أعضائه، بمن فيهم كبار الشعراء والأدباء والمثقفين. فلا ينبغي لهم قراءة روايات وأشعار وقصص إلاَّ لأسماء محددة ومحدودة أمثال مكسيم جوركي وتشيكوف وناظم حكمت وبابلو نيرودا. والأمر ذاته ينطبق على قراءة الصحف والمجلات أو الاستماع إلى محطات الاذاعة!
غير أنني أظن -وبعض الظن ليس باثم- أن أكثر ما قَهَرَ السياب كان موضوع حبيبته والأمين العام و.. “ابن الحزب”!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.