فبراير” ثورة من طراز خاص، إنها وردة من بستان الربيع العربي الذي أضربت أزهاره عن التفتّح زمناً ليس بالقليل، فكان كل ربيع يمر علينا أجرد، إلا من نخلة حمقاء تسكنه لا تبعث على البهجة، ولا تمنح الجمال أو الثمر مع الأمل. فبراير” ثورة من طراز خاص، إنها وردة من بستان الربيع العربي الذي أضربت أزهاره عن التفتّح زمناً ليس بالقليل، فكان كل ربيع يمر علينا أجرد، إلا من نخلة حمقاء تسكنه لا تبعث على البهجة، ولا تمنح الجمال أو الثمر مع الأمل.
سنوات طويلة مثقلة بالأوجاع على المستوى الشخصي والوطني والحضاري، ظلت تزحف نحو لحظتها الزمنية، المكتوبة بالقدر الحضاري الممتد في مسيرة تاريخ التغيير الثوري، شرائح كثيرة تناوبت على زراعة ورود هذا الربيع وصناعة أحداثه الكونية الكبرى، حتى أتت لحظة “فبراير” مكتملة الأركان الثورية والشروط الموضوعية؛ لبدء الزمن الثوري الجديد، شروط كانت ضرورية وكفيلة بتغيير كل شيء في النفوس والواقع الاجتماعي والسياسي والقوى المؤثرة في صناعة القرار وملامح المستقبل.
لم تكن “فبراير” سوى تلك الأشواق والأحلام والأماني بالمستقبل الذي رسمته كلمة المعرفة على جدران الوعي الشبابي اليمني؛ لتتحول بفعل الإرادة إلى تيار أسطوري يكنس من طريق الأمة وأحلام وطنه كل جبروت الاستبداد السياسي والقوة العسكرية وخرافات التخدير المعرفي والتغييب الديني، في الثورات لا توجد رؤى متعددة لتفسير تلك القوة الشعبية التي هزَّت جبروت الاستبداد العربي الحديث، سوى أنها ثورة بلا تدبير مسبق داخلي وتآمر خارجي، كما يروج أبواق الثورة المضادة، هي ثورة عفوية شعبية مستمدة قوتها من شعبيتها وبساطتها وقوة ميتافيزيقية خارج التفسير البشري “هو الذي أيَّدك بنصره وبالمؤمنين”.
خرجت “فبراير” اليمنية إلى الساحات كمولود طبيعي للشروط الاجتماعية والسياسية والمعرفية في لحظتها التاريخية مكتمل الخلق، مثَّلت الساحات التي استقبلتها الوطن الحلم ومفتاح خريطة اليمن الجديد الذي لمَّ الشتات وجمع الفرقة، وأذابت فيها كل الفوارق، كانت كالأرض المقدسة التي تستوجب على كل قاصديها أن يتحلل من كل ما يتعلق بالماضي الذي ثُرنا عليه، ظل المولود اليمني يكبر ويقوى وتكبر الأحلام المدنية في الساحات وتكبر مخاوف الطغاة خارج الساحات؛ حيث أصبحنا ثواراً أقوياء بتحررنا من الخوف، وأصبح الحاكم مثقلاً بالخوف من سلميتنا، وكلما زادت سلمية ونقاء وبهاء بالشهداء الأطهار زادت مخاوف الطغاة، حتى تحولت إلى كابوس أرعبه فأثقله فمزقه وتركة عارياً من أستار السلطة والمال والقوة.
مر الزمن الثوري مفعماً بالدهشة اليمنية، وكبرت فبراير كحلم تجاوز كل ما كنا نتمناه، لكننا للأسف لم نكبر معها، غرقنا في تفاصيل قضايانا الشخصية وانكفأ الكثير في دهاليز الأحزاب في نقاشات سردابية تتمحور حول تطويع الحلم الوطني في قالب حزبي عتيق، وبرزت هنا مسوخ سياسية ظاهرها الثورة وباطنها حنين إلى ماضٍ مصلحي ثرنا عليه.
كانت فاصلة الكرامة “جمعة الكرامة” العجلة التي ذهبت بنا بعيداً إلى تخوم الحلم، وأدرك بعدها الجميع أننا دخلنا زمن اللاعودة، وأن عجلة فبراير التي دارت كانت قد تحركت في الوعي والنفسية اليمنية منذ زمن لم يدركه الجميع، وكشفت جمعة الكرامة حجم الصورة المشوهة التي وصلت إليها الشخصية اليمنية في عهد النظام الذي ثرنا عليه، شخصية مشوهة مشحونة بالعبودية، تقتل لأجل المال وبقاء الزعيم، في مقابلها شخصية استثنائية خالدة تتحوصل في أعماقها بقايا بذور حضارة يمنية حميرية سبئية قادرة على الإبهار واستعادة زمام المبادرة، تنبض بحضارة “تبع” إلى جوار “بلقيس” في لحظة يمنية لا تتكرر إلا نادراً، وفي لحظة نصنع فارقاً تاريخياً وحضارياً واضحاً ومهماً.
“فبراير” كانت واجباً وطنياً وإنسانياً مُلحاً لتخليص الشخصية اليمنية التي مسخ فكرها ونفسيتها نظام قرر أن يقضي على كل شيء من الكرامة والإباء اليمني لأجل التوريث، وضرورة إعادة تأهيلها، ولكن للأسف تركناها لغياب المشروع الواضح المعالم، وغرقنا في حلول سياسية وإعادة إنتاج معالم الستينات بصورة جديدة.
“فبراير” ثورة لها منطقها وقوانينها التي تقتضي المفاصلة الناجزة بين عهدين، وهو ما لم يتم بوعي، فتحرك منطق التاريخ وقانون الثورة على الأرض ليثبت قوة وعنفوان فبراير، فطحنت النظام السابق أولاً بالتفكيك والإقصاء، ثم انتقلت إلى قوى الثورة بأنواعها المختلفة؛ ليطحن كل ما له علاقة بالماضي فكرياً وشعورياً وسلوكياً؛ ليحقق فيها شروط الثائر بمن فيهم الرئيس هادي وأركان حكمه، فهناك فارق واضح بين الثائر القادر على تحقيق شروط فبراير الثورة، وبين مَن ركب موجتها وحوَّلها إلى نزال سياسي مع حلفاء الماضي، فالثائر اليوم وحده فقط من يستطيع أن يقدم التفسير لما يحدث وفق منطق الثورة وقانونها الصارم.
لم تكن ميليشيات الحوثي سوى فلتة عابرة من فلتات التاريخ، وجزء أصيل من الماضي الذي ثرنا ضده، إلا أن هذه الجماعات ظلت متحوصلة في كهوف مران، حاملة معها فيروسات الخرافة الإلهية التي أتى بها جدها ومؤسس فكرها الإمام الهادي الرسي -سبتمبر- وظلت تلك الكهوف بعيدة عن أشعة شمس سبتمبر ووعي ثقافتها، فبقيت جراثيمها وأمراضها تتكاثر في العفن، حتى جاءت فبراير فأذابت بحرارتها الثورية هذه الحوصلة؛ لتخرج هذه الكائنات المريضة وتملأ فراغ الزعامة بزعامة مريضة وفراغ المشروع الذي تركه ثوار فبراير دون أن يكتمل، فتلقفت الشخصية المشوهة التي شوهها صالح في معسكرات الأبناء وحولها إلى شخصية مريضة وقاتل؛ ليصبح اليمن أمام معسكرين: الأول معسكر الثورة الذي لم يستكمل ثورته، ومعسكرات مضادة للثورة استغل الفراغَين؛ فراغ الزعامة والمشروع؛ ليعلن من نفسه ثورة جديدة بزعامة مجنونة ومشروع تدميري يناصب فبراير العداء؛ لتبدأ مرحلة جديدة لثورة فبراير، مرحلة كفاح الضرورة المسلح.
من رحمة الله أن يمدد قبح الميليشيات وحليفها صالح في كل اليمن كتمدد الساحات في فبراير؛ فتحدث المقارنة الواعية، ويذوق الناس مر هذا القبح؛ لتغلق في وجوههم كل أبواب القبول المدني، وتبرز من اليمن شريحة جديدة تستكمل بها شريحة فبراير الأولى، التي ستؤسس للانتقال إلى شريحة التغيير والبناء، وهي شريحة تستوفي كل شروط البناء والنهوض.
اليمن ونحن نحتفل بالذكرى السادسة لثورة فبراير، واليمن يعيش صورة أخرى من صور السلمية والصدور العارية، تغيّر فيه كل شيء، صورة هي أحد أوجه فبراير الاضطرارية، وجه الكرامة والحرية الذي يأبى الخضوع لمن ثارت عليه، سواء باسم الحق الإلهي أو العسكري، فالجيل الذي افترش الأسفلت والتحف السماء ونام بين الوحل والمطر في الساحات هو اليوم نفس الشباب يصنع اليمن في جبال مأرب، وفي فرضة نهم ووديان تعز وسواحل عدن، يصنع اليمن الجديد بنفس التنوع، تختلط الدماء والأشلاء الحضرمية والعدنية والتعزية والصنعانية والبيضانية، داسوا على كل أمراض ثوار الفيس الساكنين في الفنادق، جيل يسحق المقدس السياسي السلطوي في الأرض، والمقدس الخرافي باسم الحق الإلهي في الفكر والوجدان؛ ليبني يمن فبراير الخالي من القداسات إلا قدسية الشعب والقيم الكبرى والحرية والمساواة والقانون.
“فبراير” اليوم بانتظار الإنصاف وعدم تكرار الأخطاء، لا بد من مراجعة شاملة وعميقة، وعلى الجميع أن ينصت للدماء التي سالت والأرواح التي حلقت، يجب أن تتصدر فبراير المشهد بروحها ومنهجها وعنفوانها، كما أنه يجب أن تجدد الثورة شخوصها ومدعي قيادتها، اليوم للثورة نفَس آخر غير نفس 2011م يجب أن يمثل ويسمع منه، وإن العابثين باسمها في حكومة الشرعية ويديرون الدولة وفق مشهد عبثي، يكرر سلوك النظام السابق في إدارة الدولة وممارسة الفساد وتقسيم المناصب ليسوا منا، ولن يكون منتمياً لـ”فبراير” مَن يمارس العقوق الذي نراه.
نقلا عن هافنغتون بوست عربي