زحزحة الأوضاع القديمة للمجتمع يتطلب صنع أوضاع جديدة -تنموية وتنويرية على وجه الخصوص- تحدث تغييرات اجتماعية وفكرية جديدة، وفقاً للمصلحة الوطنية لا الفئوية، وهذا يتطلب في المقام الأول تحرير الجيش وتحديث الدولة بضمان حقوق وواجبات المواطنة المتساوية، إضافة إلى المشاركة السياسية الديمقراطية في الثروة والقرار. لا يمكن تحرير الناس من استبداد الشيخ “زعطان” باستبداد السيد “فلتان” أو العكس.. “المسيدة والمشيخة ” عدوتان لدودتان لحرية الناس، وإن اصطدمتا ببعضهما.. التجهيل والكهنوت والقوة والعنصرية، أدواتهم المشتركة لإخضاع الناس وتجيير الدولة. أما “الفندمة” فلها تاريخ طويل في تدعيم مصالحها وفسادها بتدعيم مصالحهما الاستغلالية المشتركة بالمقابل، ما خلق مساراً لاوطنياً هو الأكثر بؤساً في التأريخ اليمني المعاصر منذ ما بعد سبتمبر 62.
فالفنادم الذين حظوا بامتيازات لامشروعة كقوة جديدة تنافس للاستحواذ على السلطة واحتكارها، يكشف التاريخ أنهم لم يحموا الشرعية الدستورية والقانونية، وبالتالي لم يكن الجيش ملك الشعب في معظم المراحل، وإنما استمرت تتناهشه مراكز النفوذ التاريخية، حتى كانوا تارة مع استبداد الحاكم العسكري وتارة مع المشيخة والمسيدة كجناحين له، وهكذا اكتملت أضلاع مثلث عوائق بناء الدولة الأكثر احباطاً للمجتمع.
ثم إن حيازة هؤلاء للسلاح هي أداتهم العليا التي لن يتنازلوا عنها في السعي لتوظيف الغلبة لفرض عصبوية ومزاج اللادولة، بينما لا نتيجة تستحق الذكر سوى تغيير الشكل ليبقى المضمون واحداً.
ولئن قادت الظروف إلى جيش وطني قوي -وأشك في ذلك على المدى القريب- كمؤسسة بلا انتهازية وبلا مصالح مشتركة مع مراكز القوى التقليدية، فيمكن حينها إيقاف كل مصيبة تاريخية عند حدها، واجراء معالجات لآثار التخلف والفقر وفق اسس مواطناتية تنموية ذات اجماع شعبي. أما إذا نجحت الدولة في بسط سلطة القانون العادل والنظام العام فقد انتفت بالتأكيد الحاجة لأي سلطة اخرى تمارس الاستفراد والاستحواذ باسم الدولة.
غير أن المسيدة والمشيخة لن تسمحا بذلك وستتفقان على جمودهما، وابقاء الجيش بلا مضامين وطنية إلى أن تتمكنا لاحقاً من استعادة الهيمنة بمجرد ما تحين الفرصة المناسبة، أو على الأقل سيكون الجيش في ظل عدم وجود إرادة سياسية وطنية عليا تعمل على تصحيح وترشيد مساره وفق الأسس الدستورية الجامعة، مجرد يد يبطش بها كل طرف على الآخر، كما على الدولة والمجتمع بالتالي.
والحال إن التعويل على زحزحة الأوضاع القديمة للمجتمع يتطلب صنع أوضاع جديدة -تنموية وتنويرية على وجه الخصوص- تحدث تغييرات اجتماعية وفكرية جديدة، وفقاً للمصلحة الوطنية لا الفئوية، وهذا يتطلب في المقام الأول تحرير الجيش وتحديث الدولة بضمان حقوق وواجبات المواطنة المتساوية، إضافة إلى المشاركة السياسية الديمقراطية في الثروة والقرار.
أما الآن فلا يزال الطريق صعباً وشائكاً، فبالرغم من كل التحولات التي حدثت على مدى عقود، لم تؤدي إلى مستجدات جوهرية في ترويكة السلوك التسلطي الذي ظل يرفض صوت العقل مراراً، كما أن الحرب السيئىة التي ما زالت قائمة قد خلفت دماراً هائلاً في الواقع وفي النفوس، حتى صار المستقبل يحتاج إلى عزيمة كبرى لا تقود إلى تثبيت الفراغ والعنف والارهاب وانسداد الأفق واختلاط الحابل بالنابل..عزيمة وطنية خالصة لمواجهة التحديات التي تفضي إلى انجاز اولويات الدولة والمجتمع، وإعادة تحقيق الاندماج الوطني، عبر خطط مسئولة نابعة من خطاب سياسي وإعلامي وثقافي ناضج لمغادرة مناخات الطغيان والحرب والتطرف على كل المستويات، الأمر الذي سيقود إلى صنع التغيير الإنقاذي الفاعل للمجتمع وللدولة، وكذا تفعيل عملية الإنتقال السلمي للسلطة، وفق أسس وطنية مشتركة جادة وغير انفعالية، تضمن التحولات الفارقة التي كافح وضحى الشعب اليمني طويلاً من أجلها، بدلاً من كل هذه المقامرات والمغامرات القائمة لصوملة الدولة والمجتمع.. مع أن الصومال بدأت تتجاوز كوارثها.. ونحن دشنا كوارثنا الجديدة.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.