يقوم الجزء الثاني من الفرضية المركبة المشار إلى جزئها الأول سابقاً إلى أن قناعة أغلبية العلمانيين تواطأت على خلو الفكر السياسي الإسلامي من امتلاكه نظاماً شاملاً متكاملاً يحوي الفكر والسياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع، إذ ليس ثمّة – عندهم- أكثر من نظامين (عالميين)، كان يسمّى أحدهما يوماً: النظام الاشتراكي الشيوعي، هل يمتلك الإسلام نظامأ شاملاً؟
يقوم الجزء الثاني من الفرضية المركبة المشار إلى جزئها الأول سابقاً إلى أن قناعة أغلبية العلمانيين تواطأت على خلو الفكر السياسي الإسلامي من امتلاكه نظاماً شاملاً متكاملاً يحوي الفكر والسياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع، إذ ليس ثمّة – عندهم- أكثر من نظامين (عالميين)، كان يسمّى أحدهما يوماً: النظام الاشتراكي الشيوعي،
يقتسم النفوذ والهيمنة على العالم مع نظيرتها: الولايات المتحدة الأمريكية، التي تمثّل بدورها القسيم الآخر للنظام العالمي، أي النظام الرأسمالي الليبرالي، ومن ورائها الدول الأوروبية الغربية. ولايزال ذلك النظام قائماً متحكماً وحده إلى حدّ كبير بمصير العالم المعاصر إلى اليوم. وغالباً ما دارت جلّ أنظمة المجتمعات العربية والإسلامية، أو ما كانت تعرف بمجتمعات العالم الثالث بالأمس بصورة عامة في عجلة أحد المحورين، و إن وجدت دول محدودة عربية وإسلامية مثّلت مركباً هجيناً بين النظامين، حيث تتداخل جملة من التعاليم الإسلامية التقليدية، ولاسيما نظام الأسرة، وبعض الأنماط التربوية والاجتماعية وقدر أقل من السياسية مع النظام الرأسمالي.
تساؤلات كبرى لإحياء فريضة التفكير:
لم يخطر ببال أيّ من قادة تلك الدول العربية والإسلامية أو نخبها المتصلة بصناعة القرار، أو المؤيدة لذلك المسار أن يسأل نفسه ولو مرّة واحدة: تُرى أين موقعنا الفلسفي أو الحضاري الكلّي بين ذينك النظامين العالميين؟ بل أين كنا قبلهما؟ مع ما يُعرف عن الحضارة الإسلامية من قدرات باهرة، وتفوق حضاري استمرّ لردح غير قليل من الزمان؟! في وقت كان الغرب والشرق يرزحان تحت نير جهالات عصور الظلام، وصراع الكنيسة والعلم والسياسة ؟!
وهنا يبرز مكمن تزييف الوعي بل تغييبه التام تقريباً، إذ إننا قد جهلنا ذواتنا، ثم رحنا نصدّق اتهامات المستعمرين العسكريين والثقافيين، ونأخذ مزاعمهم مأخذ التسليم – كما سبق القول آنفاً- بدعوى أنه لا يوجد ابتداء ما يسمّى بالنظام الإسلامي في السياسة، أو الاقتصاد، أو التربية، أو الاجتماع، أو أيّ من النظم المتعارف عليها، وأن حتمية النهوض المجتمعي لأيّ من مجتمعاتنا تكمن في التبعية للنموذج الغربي وحده، بعد سقوط المعسكر الاشتراكي الشيوعي. فمنذ متى في عالم الأسوياء صارت الضحيّة تصدّق جلادها؟!
لقد كان المفترض منطقياً في ظل كل تلك التطورات أن يدفع ذلك من صدّق من نخبنا وتلامذتهم أتباع النموذج الاشتراكي المنهار، وأتباع النموذج الرأسمالي معاً محرك التفكير لديهم ليتساءلوا: ما الذي يضمن استمرار النظام الرأسمالي الليبرالي دون أن يلحقه السقوط كذلك طال الزمن أم قصر؟ وكيف صدّقنا بالأمس حتمية النموذجين وحدهما، في حين أن الواقع أمامنا يكذبه في شطره الأول؟ أيعقل أن يظل مصيرنا رهناً بهما أو بأحدهما؟ أين نحن ؟ أين هويتنا؟ وأين ذاتنا الحضارية من كل ذلك؟
ألم تظل الدولة العثمانية كياناً عالمياً محورياً لستة قرون، وهي واحدة من تلك النماذج المشرقة بالجملة للأمة الإسلامية في سوادها الأعظم في حقب كثيرة؟ خاصة في تمثيل الأمة وتجسيد وحدتها العضوية، وكينونتها السياسية، مهما حاول أعداؤها الحضاريون في الغرب وضحاياهم لدينا أن يصوّروا الأمر عكس ذلك، لمجرّد وجود أخطاء مهما كبرت في بعض الحقب؟ كيف حكمتْ ؟ وأين ذلك من خطايا الآخر المدمّرة؟ وماذا كان نظامها السياسي والاجتماعي والتربوي والاقتصادي السائد؟ وهل كان يمكن لها أن تستمر تلك الحقبة الطويلة جدا في عمر الحضارات والأمم، وأن تبني نموذجها الفريد لو لم تمتلك نظاما فريداً قوياً خاصاً بها؟
وقبل صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم ومضيه في إصلاحاته هادئاً، بدءاً من المجالس البلدية، قبل تولي الحكومة، كانت سمعة تركيا قد انحدرت إلى الحضيض من مختلف النواحي فساداً سياسياً، وانحطاطاً اقتصادياً وأخلاقياً، وبنية تحتية مدمرة منهارة، وكوارث كونية أتت على ماتبقى، فتحوّل كل ذلك إلى العكس في ظرف سنوات معدودة، وأهمها إنجازاته الاقتصادية الكبرى على الأرض، تلك التي تحدثت عن نفسها، صاحب ذلك شهود السياسة الخارجية في العلاقة مع الكيان الصهيوني خاصة تحولاً مفصلياً منذ 2009م، وتغير ملحوظ في منهج التعامل مع التبعية العمياء لإملاءات الغرب، حيث صارت مصالح تركيا تملى من داخلها إلى حدّ غير قليل، وهو ما لفت النظر إلى مدى قدرة الذات التركية الأصيلة على أن تحقق النهوض المجتمعي، وأن تتحرر شيئاً فشيئاً عن هيمنة الآخر المطلقة. هنا بدأت المعادلة الغربية الأمريكية تختلف، ومن ثم عاد التآمر على إسقاط النموذج التركي (الأصيل) مرة جديدة.
وعلى حين كانت قصة التحول الانقلابي الكبير في ما يسمى بتركيا الحديثة بدأت بتخطيط بطيء ممتد ولكنه جاء ناجحاً بدهاء منذ انقلاب جمعية الاتحاد والترقي المشبوهة في إبريل/نيسان 1909م، ، إلى أن تمكنت الجمعية في 1923م من إسقاط الخلافة (الهشة) بالكلية، وتنصيب مصطفى كمال أتاتورك رئيساً للجمهورية التركية؛ فقد جاءت المحاولة الانقلابية الكبرى في منتصف تموز/يوليو 2016م عنيفة صاخبة لكنها فشلت بامتياز، رغم حجم الإعداد الأسطوري الداخلي والخارجي (لنجاحها).
ونخلص من ذلك إلى أن الوضع القائم اليوم في تركيا – من وجهة نظر تحليلية موضوعية محايدة – هو الاستثناء وليس الأصل، إذ المجتمع التركي مجتمع إسلامي في أساسه، يمثل المسلمون فيه 99% كما قال أردوغان في حديثه السابق، ومن ثم فتفاعل حزب العدالة والتنمية كنموذج عبر ما تسميه بـ(العلمانية الجديدة) هو تعامل مع واقع سياسي قائم فرض بالحديد والنار، ولم يكن اختياراً شعبياً ديموقراطياً، كي يقال إنه يعمل على انقلاب ضدّ العلمانية!
أما واقع الأمة اليوم فإنه وإن كان منكسراً فذلك طبعي في قانون العمران والحضارات، وليس قدراً مقدوراً على هذه الأمة. وما يجري ليس بأكثر من دورة حضارية، تأخذ مداها في السبات الحضاري، ثم ما تلبث أن تستفيق لتستأنف مسارها، إذا اجتمعت لها عوامل النهوض، وقوانين الانبعاث الحضاري. مع أنه يثبت كل يوم أن الغرب مستمر في عدائه الحضاري لأمتنا { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون} (يوسف:21).
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.