حتى كان هذا الأسبوع الأخير الذي انقطعت فيه اتصالاته، وكانت أخبار المعارك على أشدها في جبهة صرواح واليوم في الساعة السادسة صباحاً جاءت رسالة كتبها هو قبل انغماسه في العمق وأوصى رفاقه إن هو مات أن يرسلوها إلي. ها قد جاء النعي إذاً.
خمسُ سنوات منذ أمسك بيديها وقادها نحو غرفتهم كعادته حين يهمُّ الإسرار لها بشيء.
(سننزل الشارع الليلة في ساحة الجامعة)، كان يتحدث بحماسة وعيونه تلمع!
قال إنه اتفق مع مجموعة من الشباب أن ينزلوا ويحتفلوا بسقوط حسني مبارك، ويخيموا جوار بوابة الجامعة. كان حديثه سريعاً لكنه توقف فجأه ونظر إليَّ وأنا منكَّسة الرأس، ورفع بيده الحانية ذقني نحو الأعلى
وحين لاحظ عيناي مغرورقتان بالدموع، أصدر آهة متأسفة:
وتسائل باستغراب: نسيم.. ليش تبكي؟
أشحت بوجهي واستمر تساقط الدموع وقلت بصوت مختنق: خائفه عليك.
نسيم؟ مالك ياحبيبة؟ إحنا ننزل نعتصم سلمياً وإن شاء الله ما يحصل شي
ضل يجفف دموعها بكلماته المطمئنة وصوته الحاني.
تظاهرت بالهدوء، غير أنها تعرفه. تعرفه مخلصاً للدروب التي يؤمن بها
مخلصاً في الحب ومخلصاً في الثورة ومخلصاً في المقاومة
تعرف زوجها وقلبه المشتعل بالرفض، وصدقه المتحدي وإندفاعاته المغامرة
سقط فارسها أخيراً بعد خمس سنوات من الانتظار، وقلبها لا يعرف سوى الرجاء بأن يحفظه الباري وأن يعود إلى عشه سالماً ذات يوم.
عاشت تفاصيل ثورة فبراير معه، خرجا للساحة معاً، وتسابقا للخرو ج في المسيرات
كان يوم من أيام الثورة يبدد شيئاً من اللوعة والجزع على زوجها ورفيق دربها
في جمعة الكرامة كان في مقدمة الصفوف، جاءها بعد العصر مثخناً بالتعب والغبار والملابس الممزقة، وفتحت له الباب فارتمى في أحضانها يبكي شبابا مزقته رصاصة القناصة. وفي أحداث جولة النصر جاءها جريحاً ملفوفة يده بالضمادات.
مرنتها أيام فبراير على الصبر والرضا بقسمة الأقدار واختيارات الرحمن الرحيم.
ما كادت اليمن تهدأ، حتى اشعلت فيها الضجيج الثورة المضادة، ثورة الانتقام من اليمن ومن فبراير.
في 21 سبتمبر حين سقطت العاصمة، وكانت شاصات الحوثي تمر من أمام ناظريه من شباك بيتهم في السنينة، أشاح بوجهه وفيه أخاديد من المرارة، وخرج من البيت وصفق الباب ورائه بقوة.
وفي المساء عاد إليها جسداً بلا روح، قربت له العشاء الذي لم يذق منه لقمة. كان يداعب مولودهم الصغير بابتسامات باهتة، وكان واضحاً أنه يخوض معركة داخل نفسه، وكان الصمت وتركه يتدبَّرُ الأمرَ بمفرده هو الأحكم. أخذت الأولاد إلى الغرفة المجاورة، وكنت أسمع تأوهاته المحترقة.
جاءها بعد ثلاثة أيام يقتسم عينيه شيئان: التردد والأمل. بعد نصف ساعة من الصمت تغلب على تردده وأفصح لها أنه يريد السفر إلى مأرب، وقال لها إن القرار لا يخصه وحده، بل يخصهم جميعاً (كان يقصدها وأبنيهما)، وأنها لو طلبت إليه البقاء فسيبقى.
حين هممت بالرد توسلت عيناه إليَّ :لا تستعجلي بالرد خذي فرصتك في التفكير.
وانصرف بعد الغداء.
هل كان الأمر يستحق مدة طويلة للتفكير.. لا أدري! ربما كان الأمر كذلك قبل أن يعيد فبراير ترتيب عواطفنا، كان فبراير هو القرار وليس ما بعده إلا دفعاً لأثمان هذا القرار
كل حواراتي الداخلية كانت تفضي إلى صوت وحيد يتردد في أرجاء نفسي.
(مضى وقت التفكير، وهاهو الوطن يحتضر تخنقه الثوره المضادة، وراية فبراير كادت تلامس الأرض.
مضى وقت التفكير والصياح، وحان وقت حمل السلاح من أجل الوطن).
عاد في المساء، وكنت أسمع وجيب قلبه وحين كان يتحاشى النظر في وجهي كنت أقابله بابتسامة مشجعة.
أفصحتُ له عن قراري الذي اتسعت له عيناه تتراقص فيهما الفرحة والدهشه والامتنان
قال لي غير مصدِّق: أذهب؟
-سأحزم أمتعتك الليلة، وسافر بعد الفجر إن أردت.
كان يواصلني بشكل شبه يومي، يسرد لي قصص الجبهة وأفراحها وأحزانها.. كنت معه حين بكى من سقط من رفاقه، كنا سوياً ننتفس غبار المعركة ويخفف واحدنا عن الآخر ألم البعد ولهيب الإشتياق.
كنا روحين وحدتهما نضالات فبراير، ورغم بعد المسافات تماهت روحانا ونحن ندفع الأثمان لئلا تسقط راية فبراير.
حتى كان هذا الأسبوع الأخير الذي انقطعت فيه اتصالاته، وكانت أخبار المعارك على أشدها في جبهة صرواح واليوم في الساعة السادسة صباحاً جاءت رسالة كتبها هو قبل انغماسه في العمق وأوصى رفاقه إن هو مات أن يرسلوها إلي
كانت رسالته..
أحببت اليمن وسبتمبر واكتوبر وفبراير.. وكنت أنتي من علمني كل أنواع الحب
إلى اللقاء يا حبيبتي..
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.