تولَّد ميكانيزم الحركة الثورية الشعبية من معاناة جمعية وقهر متوطِّن جراء حزمة متسلسلة ومزمنة من المظالم والمفاسد التي دعت تلك الجموع المصهورة بالجموح والطموح إلى الخروج من الجامعة والجامع والمول والمصنع والثكنة والحقل والورشة والمقهى إلى قلب الشارع. هل بلغنا -اليوم- الضفة الأخرى في موضوع “الربيع العربي”، حيث نستطيع أن نشرع في التحليل الموضوعي، بعيداً عن العاطفة والانفعال، وقريباً من الاطمئنان إلى وضوح الصورة ووفرة المعلومات ودقّة الحيثيات؟
ربما. فقد اتضح أننا لسنا أمام ثورة جياع، كما حدث مراراً وتكراراً في غير قطر عربي وفي غير عهد وعصر. إنما قبالة هبّة ثورية شعبية قادتها وكانت وقودها طبقة وفئة. الطبقة الوسطى وفئة الشباب. فالطبقة الوسطى تكون، في أغلب الحالات، الأكثر تضرراً أو الأعمق شعوراً بوطأة الفساد من جهة وقمع الحريات من جهة أخرى. أما فئة الشباب فتشكل عماد السكان وعمود البنيان في المجتمعات العربية.
كما أن الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني كانت بعيدة عن بؤر هذه الثورات، أو غائبة عن مشهد انطلاقتها الأولى، وانْ عملت على ركوب موجتها مع فئات وقوى أخرى لاحقاً! وفي الوقت نفسه، لم يكن ثمة مخطط انقلابي مرسوم ومُعَد له سلفاً.. أو حالة مسلحة أو عنيفة، الاَّ ما حدث أحياناً كنوع من الدفاع عن النفس.
اذن، نحن قبالة حالة نادرة جداً في تاريخ مجتمعاتنا: ليست صرخة خبز.. ليس انقلاباً، أحمرَ أو أبيضَ.. ليس تحركاً حزبياً أو نقابياً.. وليست ثمة أسلحة في أيدي الثوار. وبالتالي، نحن قبالة درس بالغ السطوع والدلالة في الوعي والوجدان الجمعي، له ملامح حضارية وسمات مدنية وصفات شعبية.
لقد تولَّد ميكانيزم الحركة الثورية الشعبية من معاناة جمعية وقهر متوطِّن جراء حزمة متسلسلة ومزمنة من المظالم والمفاسد التي دعت تلك الجموع المصهورة بالجموح والطموح إلى الخروج من الجامعة والجامع والمول والمصنع والثكنة والحقل والورشة والمقهى إلى قلب الشارع، فامتزج في موجها الهادر: المثقف والأُمِّي، الأكاديمي والجندي، القاضية وربّة البيت، المليونير والشحاذ، الأستاذ والتلميذ، شيخ الجامع وقسيس الكنيسة، الموظف وصاحب العمل.
وهو الدرس الذي يُفضي إلى جملة من من الحقائق الراسخة في التاريخ والجغرافيا والسياسة والاجتماع.. أبرزها أن غضبة الشعب -مهما كان صابراً ومهما بدا حليماً- أكثر زلزلة من البراكين.. وأن إرادة الشباب لا تُنمِّطها التقارير الاستراتيجية المسبوكة في مراكز الدراسات، ولا تقولبها المخططات المرسومة في أجهزة المخابرات.. وأن الجيوش مهما تراصَّت خلف عصا المارشال هي أوهن من جناح بعوضة قبالة المارد إذا خرج من قمقمه، وحينها لن يدري أحد من أية جهة ينحدر؟ وإلى أي مدى يستمر؟
ويظل ما حدث -لاسيما في المشهد اليمني- في حاجة إلى كثير جهد في التحليل وإلى كثير اجتهاد في التقويم، خصوصاً لجهة الأخطاء التي أعتورت هذا المشهد، والتي أنتهى بعضها بصيرورة المسار الثوري من نصر الخلع إلى وزر البلع!
ورغم ذلك لابد من الاعتراف بأن معظم الموازين والقواعد المتصلة بالحتميات التاريخية -الاجتماعية (عربياً ويمنياً) قد أنقلبت رأساً على عقب.. كما احترقت القواميس والنواميس التي كانت بمثابة أنجيل القرن وتلمود العصر. فإذا كان غضب الطبيعة يُعيد رسم المكان على خلاف ما كان عليه، فان غضب الجماهير يُعيد رسم المكان والزمان والانسان معاً على نحوٍ بالغ العمق والتعقيد.
إن التاريخ يتكلم.. وبرغم أنه يتكلم لغة بالغة الوضوح، غير أن البعض عصيٌّ على الفهم، لأنه اعتاد قراءة النص العربي بحروف اللغة المسمارية، غير مدرك أنها أنقرضت منذ آلاف السنين!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.