لعل أكثر سؤال مطروح في موضوع حجية الحديث هو كيف جاءت الشعائر التعبدية رغم عدم تفصيل القرآن لها؟ فما مدى صحة هذا السؤال وما هو مصدر تلك الشعائر؟ الشعائر التعبدية (1):
لعل أكثر سؤال مطروح في موضوع حجية الحديث هو كيف جاءت الشعائر التعبدية رغم عدم تفصيل القرآن لها؟ فما مدى صحة هذا السؤال وما هو مصدر تلك الشعائر؟
من المعروف أن هيئة تلك الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وحج قد أثبتها التواتر العملي لها، وهو ما اشتهر في القرون الأولى باسم “السنّة” تمييزا لها عن “الحديث”، إذ السنة عمل متواتر بعكس الحديث الذي يكون قولا لا فعلا وآحاديا لا متواترا، فتلك الشعائر تواترت عملا جيلا بعد جيل، فهي موجودة قبل أن تكتب الروايات الآحادية، والناس كانوا يصلون ويصومون ويحجّون قبل كتابة البخاري ومسلم وغيرهم من المحدثين لكتبهم بعد حوالي قرنين من الزمن، وهذا يعني أن تلك الشعائر لم يكن دليل ثبوتها ظنيا بأحاديث الآحاد التي كتبتها كتب الحديث وإنما بدليل يقيني هو التواتر العملي.
فالتواتر العملي إذن هو من أثبت لنا هيئة تلك الشعائر، ولكن يبقى السؤال الآخر وهو ما مصدر تلك الشعائر التي جاء بها التواتر العملي؟
سأتوقف أولا عند هيئة وشكل شعائر الصلاة والصيام والحج على أن أكمل في مقال تال بقية النقاط المتعلقة بهذا الموضوع.
أولا الصلاة: هناك فريق من الباحثين يرى بأن الصلاة كانت موجودة في هيئتها هذه منذ أيام إبراهيم عليه السلام، وقد تناقلها الناس بعده واستمرت محفوظة في ذريته إلى أن جاء محمد عليه السلام، كان ذلك استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام أن يجعلها باقية في ذريته {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} إبراهيم: 40، وقد ذكر المؤرخ جواد علي في كتابه (تاريخ الصلاة) أن النبي ومن آمن معه كانوا يصلون منذ الأيام الأولى لدعوة النبي، وهذا يعني أن هيئة الصلاة كانت معروفة وأن القرآن أحالهم على معهود يعرفونه، ولذا لم نجد عتباً على المؤمنين من كفار قريش، ولم ينقل لنا التاريخ استنكارهم على النبي بأنه ابتدع الصلاة، وما حاولوه معه هو منعه فقط كما بينت سورة العلق –وهذا المقطع من أوائل ما نزل كما روت لنا كتب الحديث- {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} العلق: 9- 10، فالآية تشير إلى أنهم كانوا يصلون من أول أيام البعثة، وسكوت التاريخ عن إنكارهم عليه قرينة مهمة على أنها كانت معروفة عندهم من أيام إبراهيم عليه السلام كما كان معروفا عندهم الحج كذلك، إلا أن الحج انحرف قليلا بسبب طول زمن إقامة شعائره، باعتباره شعيرة سنوية لا يومية كالصلاة، ولذا عدل لهم القرآن في الحج فقال: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} البقرة: 199.
وأما قوله تعالى في شأن صلاة قريش {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} الأنفال: 35، فالآية لا تتحدث عن شكل صلاتهم، بل تتحدث عن غاية ما كانوا يعملونه من مكاء وتصدية بقصد التشويش على النبي في صلاته.
وقد ذكر ابن الجوزي في تفسيره (زاد المسير ج3/ص353) هذا الرأي فقال: ” والثاني: أن التصدية: صدُّهم الناس عن البيت الحرام، قاله سعيد بن جبير. وقال ابن زيد: هو صدُّهم عن سبيل الله ودينه. وزعم مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في المسجد الحرام، قام رجلان من المشركين من بني عبد الدار عن يمينه فيصفِران، ورجلان عن يساره فيصفِّقان، فتختلط على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وقراءته، فقتلهم الله ببدر، فذلك قوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} بتوحيد الله..أهـ).
وقد ذكر الرازي في تفسيره الرأيين فقال: “قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون وقال مجاهد: كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزئون به ويصفرون ويخلطون عليه طوافه وصلاته، وقال مقاتل: كان إذا صلى الرسول في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفير والتصفيق ليخلطوا عليه صلاته. فعلى قول ابن عباس: كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقاتل، كان إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم” (التفسير الكبير ج15/ص128). وقول مجاهد ومقاتل يؤيد ما ذهبت إليه.
ثانيا الصيام: يقول تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} البقرة:183، يقول ابن تيمية: ” كان معقولا عندهم -أي قريش- أن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع ولفظ (الصيام) كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه كما في الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها (أن يوم عاشوراء كان يوما تصومه قريش في الجاهلية)، وقد ثبت عن غير واحد أنه قبل أن يفرض شهر رمضان أمر بصوم يوم عاشوراء وأرسل مناديا ينادى بصومه، فعلم أن مسمى هذا الاسم كان معروفا عندهم ” (مجموع الفتاوى ج25/ص220).
ثالثا الحج: يقول رشيد رضا معلقا على قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} البقرة:125، ” إن الحج مما أقره الإسلام من ملة إبراهيم –صلى الله عليه وسلم –كما تقدم آنفا” (تفسير المنار ج2ص177).
وقال أيضا معلقاً على قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}، “يذكّر الله –تعالى –العرب بهذه النعمة أو النعم العظيمة وهي جعل البيت الحرام مرجعا للناس يقصدونه ثم يتوبون إليه، ومأمنا لهم في تلك البلاد بلاد المخاوف التي يتخطف الناس فيها من كل جانب، وبدعوة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام –للبيت وأهله المؤمنين، وفي هذا التذكير ما فيه من الفائدة في تقرير دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم- وبيان بنائها على أصول ملة إبراهيم، الذي تحترمه قريش وغيرها من العرب” (تفسير المنار ج1ص378)، وقال مقررا بناية البيت الحرام منذ إبراهيم ” قَوْلُهُ – تَعَالَى -: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} ظاهر في أنهما هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله –تعالى –في تلك البلاد الوثنية، ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين جاءونا من ذلك بغير ما قصه الله –تعالى – علينا، وتفننوا في رواياتهم عن قدم البيت، وعن حج آدم ومن بعده من الأنبياء إليه، وعن ارتفاعه إلى السماء في وقت الطوفان، ثم نزوله مرة أخرى، وهذه الروايات يناقض أو يعارض بعضها بعضا، فهي فاسدة في تناقضها وتعارضها، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها، وفاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن، ولم يستح بعض الناس من إدخالها” (تفسير المنار ج1ص383).
كان هذا عرضا سريعا لمفهوم ربما غاب عن كثير ممن يتعامل مع النص القرآني وهو إحالة النص القرآني لما كان معهودا كإقرار له في بعض الأحيان أو تعديل لما يحتاج إلى تعديل، مع العلم أن الأركان التي اتفق عليها الفقهاء في هذه الشعائر كانت مستنبطة من القرآن الكريم، ولذا نجدهم يتفقون على تلك الأركان التي جاءت بها الآيات القرآنية بينما يختلفون على ما لم تذكره الآيات هل هو ركن أم لا، فأركان الصلاة التي اتفقوا عليها جميعا والتي بدون واحد منها تبطل الصلاة هي القيام والركوع والسجود والتلاوة، وهذه هي الأركان الأساسية للصلاة، والتي حثت عليها كثير من الآيات، وهي التي تحقق المقصود الأهم من الصلاة وهو الخضوع لله سبحانه، وأما أركان الصيام من الإمساك عن المفطرات من طعام، وشراب، وجماع، من طلوع الفجر إلى الليل (غروب الشمس) فقد فصلتها الآيات القرآنية أيضا، وكذلك أركان الحج من إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.