تتميز الأغنية اليمنية بالعديد من الخصال سواء على صعيد الموسيقى أو النص الغنائي
يمن مونيتور/العرب اللندنية
تتميز الأغنية اليمنية بالعديد من الخصال سواء على صعيد الموسيقى أو النص الغنائي، كما تنقسم وتتفرع إلى عدّة أنواع من أشهرها “اللحجية”، التي نشأت جنوب اليمن وحملت العديد من سمات المنطقة الثقافية والاجتماعية والجغرافية، والأغنية “الصنعانية” التي حظيت باهتمام عالمي وصنفتها اليونسكو كإحدى روائع التراث العالمي الشفاهية، وكتب عنها الكثير من الباحثين العرب والأجانب متوقفين عند الكثير من جوانبها، ووصفها الباحث الموسيقي الفرنسي جان لامبير بأنها “طب النفوس” في كتابه الذي حمل العنوان ذاته.
الأغنية قديما وحديثا
يسرد الباحث اليمني زيد الفقيه في حديث لـ”العرب” بعضا من جوانب نشوء وتطور الأغنية اليمنية، والتي توصل إليها من خلال تتبعه لجذور الفن الغنائي اليمني، الذي يقول إنه يعود إلى مرحلة ضاربة في عمق التاريخ. ويضيف “اشتهر اليمن بالغناء عبر تاريخه الطويل، ويذكر المسعودي أن اليمن عرف نوعين من الغناء ‘الحميَري، والحنَفي‘ لكنهم -أي اليمنيين- كانوا يفضلون الحنفي، وكانوا يسمون الصوت الحسن بـ‘الجدن‘، وأخذ هذا الاسم من علي بن زيد ذي جدن، أحد ملوك حمير الذي يعود إليه غناء أهل اليمن، ولُقب ذي جدن لجمال صوته، ويذكر محمد باسلامة أن تاريخ الغناء في اليمن يعود إلى أيام الحضارة السبئية والمعينية إذ شهدت هذه الحضارات استخداماً واسعاً للآلات الموسيقية التي وجدت صورها على شواهد القبور منحوتة في حجر من الرخام والجير، وكانت النساء هن اللاتي يعزفن على تلك الآلات”.
مثل الغناء كان للشعر الشعبي المغنى مجددوه الذين أخرجوه من الدائرة الريفية الضيقة إلى رحاب الفضاء الغنائي الواسع
ويتابع الفقيه “اشتهر المغنون اليمنيون في عصور مختلفة؛ ففي نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي اشتهر منهم ابن طنبور الذي عُرف بالغناء الخفيف المسمى الهزج، ووصفه المؤرخون أنه كان أهزج الناس، وذكر الأصفهاني في كتابه الأغاني من الأصوات ثلاثة: العربية، واليمانية، والرومية. ولكن ظل السجل الطربي في اليمن فارغاً حتى نهاية دولة بني نجاح في زبيد”. ساهمت الكثير من العوامل في انقطاع الأغنية اليمنية وعدم تراكم التجارب الغنائية الممتدة عبر التاريخ، ويرد ضيفنا هذا إلى رواج فنون أخرى بديلة مثل فن الإنشاد الديني، قبل أن تظهر موجة جديدة من الفنانين اليمنيين حاولوا إعادة الاعتبار لتراثهم الفني.
عن بزوغ الأغنية اليمنية الحديثة يقول الفقيه “يؤرخ ظهور الأغنية الحديثة في شمال اليمن بظهور الشيخ سعد عبدالله الذي كان يحفظ ثلاثة آلاف مقطوعة شعرية غنائية، ووصف بأنه ‘أطرب بغنائه الناس والعصافير‘ قبل أن يقتل سنة 1919، عندما حاصر الإمام يحيى صنعاء لطرد الأتراك، أما في المحافظات الجنوبية من اليمن، فقد ظهرت كوكبة من الفنانين إبان الاحتلال البريطاني لعدن، وكان الطرب والغنى مشاعين بين فناني اليمن، وقد ذكر الفنان والباحث اليمني الراحل محمد مرشد ناجي أن الغناء اللحجي قبل أحمد فضل القمندان كان متأثراً بالغناء الصنعاني”.
يشير الفقيه إلى أن بروز تيارات تجديدية في الغناء اليمني الحديث ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، وتنقسم هذه التيارات وفقا لرأيه، إلى ثلاثة أقسام، تيار استلهم تجديداته من الموروث التقليدي ويمثله الشيخ جابر رزق، و محمد مرشد ناجي، وعلي بن علي الآنسي، ومن أهم سمات هذا التيار المحافظة على التقاليد الغنائية اليمنية على الأصعدة النغمية والإيقاعية والأدائية.
أما التيار الثاني، فقد استلهم، كما يقول ضيفنا، من الموروث الشعبي يمثله أحمد فضل القمندان، ومحمد جمعة خان، وأيوب طارش عبسي، ومن أهم سماته الاهتمام بالمادة الغنائية الشعبية. فيما ارتكز التيار الثالث في تجديداته على الغناء المصري ويمثله خليل محمد خليل، وأحمد بن أحمد قاسم، ومحمد عبده زيدي، ومن أهم خصائصه أنه ينهل من الأغاني العربية المصرية، لأن أصحاب هذا التيار يرون في الأغنية المصرية الأنموذج الأسمى للطرب العربي.
على الرغم من انتماء جل الفن الغنائي اليمني إلى التراث إلا أن مفهوم الفلكلور الذي تسرب إلى المشهد الثقافي العربي في ستينات القرن الماضي ساهم في إعادة فرز وتصنيف الموروث الغنائي اليمني، والشاعر عبدالعزيز المقالح من أبرز من بحث في الأدب الشعبي في اليمن حينئذ، وأنجز رسالة الدكتوراه ونشرها في كتابه “شعر العامية في اليمن” عام 1978.
عن انعكاسات هذا التصنيف على المشهد الغنائي اليمني يقول الفقيه “الأغنية الشعبية كانت للشعر العامي بمثابة الرئة للجسد، ويعيد مصطفى صادق الرافعي ظهور شعر العامية إلى ظهور الغناء وانتشاره في أواخر القرن الأول للهجرة، وقد كان للأغنية الفضل في ظهور القصائد المخفية والمناجاة الخاصة في صدور العشاق في مختلف العصور والأزمان، بدءا من علية بنت المهدي وانتهاءً بأغاني المرأة اليمنية في الريف ومن هذا الضرب الغنائي المحتجب أغاني المرأة اليمنية في الريف، والمدينة، فقد تعددت أغراضه وتعكس هذه الأغاني الوجدانية بنواحيها المختلفة حالة المجتمع اليمني قبل ظهور التيارات الدينية المتطرفة، ومشاركة أفراده في الحياة العامة بإيجابية منقطعة النظير”.
يلفت الباحث إلى أن هذه الأغاني هي خلجات النسوة اللاتي ضربن سهما في الحب والفراق، وتمثل الموروث الغنائي الشعبي لأكثر من مدينة وقرية، وهي برهان وجداني على انصهار أبنائه في ثقافة شعبية مشتركة، لم ترَ في مثل هذه الخلجات الإنسانية ما هو محرم ولا معيب. ويؤكد الفقيه أنه رغم محدودية تداول هذه الأغاني بين سكان القرى في إطار ضيق، إلا أن المرأة قد تصنع صورة شعرية لا يستطيع شعراء الفصيح الإتيان بمثلها، مستشهدا بقول في مهجل علاني تصف حبيبها “مبسمه بارق بعلان: لا ضحك ضوَّء المكان”.
يقول الفقيه “فمن مثل هذه ‘المهاجل‘ و‘الزوامل‘ والأغاريد تَشَكّلَ أساس شعر العامية من ناحية التفاعل واللغة ومن حيث النكهة، وإذا كان الشعر العامي عند المثقفين من ابن فليتة إلى عبدالله هاشم الكبسي، وصالح السعيدي، يمت إلى بعض البحور الخليلية والموضوعات الموروثة، فإنه استقى كيانه خاصة من المزارع والشعاب وهي ينابيعه الأصلية، لأن فن الأرياف جذّره وخلق بيئته الاجتماعية. ولم يخرج شعراء العامية عن الفصيح، إلا لأن فن الريف قد سبقهم بخلق ملكة الإيقاع وحاسة التقبل”.
يؤكد زيد الفقيه أن الأغنية الشعبية شهدت تحولا إضافيا على يد الشاعر اليمني الراحل مطهر بن علي الإرياني، والذي أحدث نقلة نوعية في مضامين القصيدة الشعبية التي كانت تحمل في معظمها أغراضا حربية -كما يقول الفقيه- فقد كانت قصيدة البوادي غالبا تنحاز إلى القبيلة وتحرِّض على العصبية وعلى الانتماء والتعصب للطرف الذي تنتسب إليه، وغالباً ما كانت الأراجيز التي يرددها الجيش توجه من قبل الحاكم ضد شعبه بغية التخويف وفرض الهيمنة، ولم تكن القصائد الشعبية -في معظمها- تُعبِّر عن هموم وتطلعات الشعب وطرح قضاياه، لكن مع ظهور جيل طلائعي توجهت القصيدة الشعبية إلى أغراض إيجابية تساند الشعب وتقف إلى جانب قضاياه، وكان هذا التحول قد مثله مطهر الإرياني، حين استل روح قصيدته الشعبية من الموروث الشعبي اليمني الأصيل”.