قصص كابوسية عن كوارث المصير البشري
كثيرا ما يلجأ الكاتب إلى التخفي في أعماله، التي تبدو ناقدة للعالم ومتنبئة بمصيره في ظل واقع صعب ومليء بالمخاطر
يمن مونيتور/العرب اللندنية
كثيرا ما يلجأ الكاتب إلى التخفي في أعماله، التي تبدو ناقدة للعالم ومتنبئة بمصيره في ظل واقع صعب ومليء بالمخاطر، حتى أنه يهرب من سرد سيرته الذاتية، رغم وجوده الفعلي في مختلف أحداث عمله، ولعل هذا الهروب يطرح العديد من الأسئلة حول صدق آرائه وتكهناته، وهو في الآن نفسه دليل على أن الكاتب هو في الحقيقة مشارك في قضايا العالم الراهنة، ومطالب بالكشف عن الوجه الآخر لإشكاليات ومفاهيم عديدة منها السلطة والعدل وغيرهما.
يعالج الكاتب السويسري فريدريش دورنمات في ثلاث قصص صدرت أخيرا مترجمة إلى العربية، بعنوان “السقوط”، ومن ترجمة الكاتب سمير جريس، قضايا السلطة والعدل والحرب؛ كيف يتحول الخوف من السلطة إلى كابوس؟ وماذا لو غابت العدالة وسيطرت رغبة الانتقام؟ ورعب النفق المظلم الذي يمكن أن يصل إلى قيام حرب عالمية ثالثة؟
ويصدر جريس ترجمته للقصص بمقدمة يؤكد فيها أن الكاتب السويسري فريدريش دورنمات (1921 – 1990) يحتل مكانة مرموقة في الأدب الألماني المعاصر، بل وفي الأدب العالمي كله. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إنه أكثر أهميةً وعمقاً وإمتاعاً من عدد كبير ممّن نالوا جائزة نوبل. يقول “دورنمات أديب ‘كلاسيكي’ كوني، يتناول بشكل مشوق القضايا الكبرى التي شغلت الإنسان على مر العصور، حتى إذا كان ما يكتبه ‘ليس إلا’ قصة بوليسية.
كما يبتعد دورنمات في أعماله ابتعاداً تاماً عن السيرة الذاتية وعن التناول المباشر للأحداث التاريخية، وهو بذلك يختلف عن معظم أدباء جيله، سواء من موطنه سويسرا، مثل ماكس فريش، أو في ألمانيا، مثل غونتر غراس وهاينريش بُل وكريستا فولف”.
فكرة الحروب
يتناول دورنمات في القصة الأولى “السقوط”، مجموعة من المتعطشين للسلطة المتشبثين بها، إذ يبرع الكاتب السويسري في رسم بورتريه لهذه المجموعة التي يسيطر عليها رعب فقدان السلطة. القصة الثانية في ترتيب هذه المجموعة “الخسوف” تشكل معالجة نثرية لواحدة من أشهر مسرحيات دورنمات “زيارة السيدة العجوز” التي كتبها في عام 1956، وفي هذه المعالجة يعود “السيد العجوز” إلى قريته ومسقط رأسه لينتقم من الجميع. يناقش “دورنمات” في هذه القصة ماهية العدالة وغرائز إنسانية، مثل الرغبة في الانتقام والتشفي والنهم والطمع.
أما ثالثة قصص هذه المجموعة، الصادرة عن دار “الكتب خان للنشر”، والموسومة بـ”حرب التيبت الشتوية” فتبدو أكثرها كابوسية، إذ يصور فيها الكاتب نهاية العالم، أو العالم عند نهايته بعد الحرب العالمية الثالثة التي ستبيد الجميع. في هذه القصة يعرض دورنمات رؤيته لفترة الحرب الباردة، ويتعمق داخل الطبيعة الإنسانية وما فيها من شهوة للسلطة والقوة، ونظرة الإنسان المحدودة بمنظور النفق الذي لا يجد مخرجًا منه، ووسيلته الوحيدة لإثبات وجوده هي القتل.
ويشير المترجم سمير جريس إلى أن دورنمات، وكما نرى بوضوح في القصص الثلاث التي تتضمنها المجموعة، هو شاعر الكوارث البشرية، الكاشف عن الأعماق الإنسانية المظلمة، والمتنبئ بالجنون العالمي المدمر. لا تمنح قصص دورنمات ومسرحياته الأمل الكاذب، بل تفتح عين القارئ على اتساعها ليرى العالم كما هو، أو ربما أبشع مما هو. ويبدو دورنمات منذ أعماله الأولى كاتباً حكيما، عجوزاً يتأمل في أحوال العالم، ويتلذذ بتصوير متاهاته وشروره، كاتباً يؤمن بأن السخرية هي الوسيلة الوحيدة لتحمل هذا العالم المجنون.
ويوضح أن القصص الثلاث بها كل ملامح أدب دورنمات النثري. ويضيف “في القصة الأولى يعود الكاتب إلى مسرحية ‘زيارة السيدة العجوز’، وهي المسرحية التي ارتبط اسمه بها طويلاً. وربما ظلت فكرة هذه المسرحية تشغله حتى وفاته، فكتب لها عدة صياغات نثرية، نُشرت آخرها عام 1990 بعنوان ‘الخسوف’.
سرد غرائبي عن عالم مفجوع
في هذه القصة يرجع ‘السيد العجوز” إلى قريته ومسقط رأسه لينتقم من خطيبته السابقة ومن زوجها. في قصة ‘الخسوف’ يتناول درونمات مرة أخرى أحد موضوعاته الأثيرة متأملاً في ماهية العدالة، ومسلطاً الضوء على غرائز إنسانية أزلية، مثل الرغبة في الانتقام والتشفي وكذلك النهم والطمع الذي لا يعرف شبعاً”.
التعطش إلى السلطة
في قصة “السقوط” (1971) التي تحمل المجموعة عنوانها يرسم دورنمات بورتريها بارعاً لمجموعة من المتعطشين إلى السلطة والمتشبثين بها، وهي مجموعة يسيطر عليها رعب فقدان السلطة. هذه المجموعة يسيطر عليها الزعيم (أ)، ومعه -يقول درونمات- “حصلت ماكينة السلطة التي لا سمات لها على وجه وملامح، بيد أن الزعيم الكبير لم يكتف بالتمثيل، لقد شرع باسم الثورة في سحق الثوريين. ولم تتم تصفية أبطال الثورة فحسب، بل تمت أيضاً تصفية أولئك الذين أمسكوا بعدها بدفة السلطة واقتربوا من دائرة الأمانة السياسية.
وبقي الشعب مطمئنا لأنه -في بلادته وعدم شعوره بكارثية وضعه- لم يكن يخشى أن يفقد شيئا، إذ أنه لا يملك شيئا، أما أصحاب الامتيازات فإنهم يخافون أن يفقدوا كل شيء لأنهم يملكون كل شيء. وكان الشعب يشارك بدور المتفرج في المسرحية الدموية التي تقدمها السياسة. لم يسقط صاحب سلطة أبدا دون محكمة علنية، دون مسرحية راقية، أو دون أن تتصدر العدالة المشهد الفخم، دون أن يعترف المتهم بذنبه اعترافا احتفاليا.
كانوا في عيون الجماهير مجرمين ينبغي إعدامهم، مخربين، خونة؛ هم المسؤولون عن فقر الشعب لا النظام، سقوطهم يبعث أملا جديدا في النفوس، أملاً في مستقبل أفضل وعدوهم به كثيرا، سقوطهم يظهر أن الثورة مستمرة، وأن قائدها الحكيم هو رجل الدولة (أ) العظيم الخيّر العبقري الذي يخدعه رفاقه المرة تلو الأخرى”.
أما قصته الكابوسية “حرب التيبت الشتوية” فيُصور فيها نهايةَ العالم، أو العالمَ بعد نهايته، بعد الحرب العالمية الثالثة، الحرب الذرية التي ستبيد الجميع. وهي أمثولة عن الطبيعة البشرية وشهوة السلطة والقوة، والمتاهة البشرية التي نعيش فيها. الإنسان هنا ذئبُ الإنسان وعدوه، وهو ضائع في “متاهة” السلطة الأبدية، نظرته محدودة بمنظور النفق الذي لا يجد مخرجاً منه، أما وسيلته الوحيدة لإثبات وجوده فهي القتل. في هذا النص يقدم دورنمات رؤيته لفترة الحرب الباردة، لكنه، كمعظم نصوص الأديب السويسري، نص متعدد الطبقات، يحتاج إلى أكثر من قراءة لكي يبصر القارئ طريقه في هذه المتاهة القصصية الجميلة.