كتابات خاصة

طريقٌ للهَرَب

أحمد الرافعي

استمرار بيع القات رغم أسعاره المرتفعة ورغم الظروف الاقتصادية السيئة التي يمر بها البلد عموما والمواطن على وجه الخصوص، هذا الأمر لا يؤشر على حالة رخاء
استمرار بيع القات رغم أسعاره المرتفعة ورغم الظروف الاقتصادية السيئة التي يمر بها البلد عموما والمواطن على وجه الخصوص، هذا الأمر لا يؤشر على حالة رخاء اقتصادي. فحالة الاقتصاد واضحهٌ للعيان، ومظاهر هذه الأزمة الخانقة ملموسة في كل تفاصيل حياتنا اليمنية البسيطة. حياةٌ  يتنازع جيبك فيها كل الأشياء من حولك وهي فاغرةٌ فاها تحفظ فعلاً واحدا يتردد على مسامعك منذ استيقاضك إلى نومك: (هات واخواتها)، بل وتلاحقك أصوات الاحتياجات حتى في مناماتك، التي تحولت هي أيضاً إلى ساحات مطالبه وأيدٍ تمتد لسؤالك والالحاح عليك في المسألة؟
اذا،ً ماسِرُّ هذا الاقبال نحو الشراء رغم موانع السعر المرتفع وقلة أو انعدام الدخل لدى المواطن؟

هل يصلح المدخل الاقتصادي كإقتراب لتفسير  هذا الارتفاع الغريب في حالات الطلب، والذي تحول إلى ظاهرة اجتماعية يمكن تلخيصها إن أردنا التوصيف الموضوعي لهذه الظاهرة في (اندفاع المواطن اليمني المطحون لشراء القات رغم ارتفاع أسعاره وبالرغم أيضا من قلة أو انعدام الدخل).. وحتى نكون موضوعيين في التوصيف، فان هذا الاندفاع سلوك يشترك فيه طبقة الأثرياء ممن لم تؤثر ظروف الحرب كثيرا في دخولهم، والطبقة المتوسطة بل (ونلمس ذلك في حياتنا اليومية المعاشة) من الطبقة الفقيرة والكادحة!

في تقديري أن الأمر يمكن تفسيره بكلمة مفتاحية. هذه الكلمة تضيئ فهمنا لهذه الظاهرة الغريبة في مجتمعنا اليمني الواقع تحت وطأة الحرب.

هذه الكلمة المركزية والتي تفتح باب الفهم لأهم دوافع شراء القات هي (الحاجة إلى الهروب).

يغدو القات في هذه الظروف الباعثة للكآبة والإختناق متنفساً نادراً يناسب بيئة اليمنيين المحرومين من بدائل الترفيه والمتعة في الماضي. كيف وقد قلّصت أو اعدَمَت ظروف الحرب هذه البدائل!

يبحث اليمني عن الراحة وكل ما يوفر له النسيان ويجلب له المتعة..

ويجد مبتغاه عند تعاطيه لشجرة القات..

هذا الخَدَرُ اللذيذ الذي يصعد إلى دماغك عند تعاطيه وشعورك بأن كل شي على خير ما يرام.

الوهم اللذيذ الذي تصنعه لك ساعات القات.

هذا التحدي للواقع المتوحش، ووصولك إلى درجة اللا مبالاة بما حصل وبما سيحصل، وأنت في متَّكَّأك تتعاطى الورقات الخضراء.

الواقع متوحش وفقير وعدو، والمتاحات منعدمة وإن لاحت فمُرهِقة تفوق استعدادات اليمني للمجابهة!

والغريب في الأمر أنك في داخلك على يقين بهذه الحالة الكاذبة التي تنتهي بانقضاء ساعات المقيل، غير أن الواقع لم يترك لك ترف الخيارات! وصار تعاطي الوهم والاستماع لتعاليم الكذب منصة مؤقتة تنطلق منها ثآراتك على هذا الواقع الصادق القاسي! وتصبح ورقة القات ملجأً لروح اليمني المثخنة بالانكسارات!

لعمرٍ طويل عاش اليمني حياته منغمساً في احتياجات اللحظه. أما ترف التخطيط للمستقبل فطوباوية (مثالية) لا توفرها ظروف اليمني. ولم يلتفت اليمني المقهور لتنمية ذاته وتحصينها بالدروع التي تقيه سهام التحديات والتغيرات التي ترميه بها الظروف.. وحين انكشف الغطاء وتمزقت خيوط العنكبوت التي كان يراهن عليها اليمني في حفظ الحد الأدنى من حاجياته؛ أصبح اليمني عارياً بجسده النحيل المصاب بالأمراض أو على الأقل الجسد الذي أصبح بيئة جاذبة للأمراض. وبعقله الفقير من سلاح المعرفة والمنطق بما توفره المعرفة للمرء من حسن تفكير ووزن للأمور بميزانها الصحيح، والتي تحافظ على عقلك في وسط يتسابق كل تفاصيله لسوقك نحو الجنون!

 وفي غياب الإيمان الذي يشع في جنبات النفس ويمنحها زاداً للمقاومة والصبر، يصبحُ في داخل كل يمني ساحة معركة يومية، وتتسابق مفردات كثيرة لتنهش روحه واعتداده بنفسه وامنياته بالاستقرار والهدوء. ولو كشف كل يمني عن الحوارات التي تدور داخل نفسه في كل يوم لأبصرنا غبار المعركة الذي ينازل فيها اليمني كل شيئ ابتداءً بنفسه! ولأدركنا كم من الخواطر الرديئة والأفكار التي تدور في عقله والتي تمارس هوايتها في تحطيم مقدرته على التماسك والصدّ!

كان تعاطي القات فيما مضى خيار يمكن الالتفات عنه باستذكار سلبياته، لكنه في وقتنا الراهن أصبح، عند البعض، خيار ضرورة ومنفذاً وحيداً للهرب! ولا يقف في وجه ارادته للحصول عليه فقره أو غلاء القات أو زنط(تعالِي) المقوت! ولا تنفع الوصايا المثالية التي يسخر منها الواقع المُر من حرف اقدام اليمني عن طريق المقوات!

وبسخرية يمسح اليمني بلهفة ورقة القات الخضراء ويتناولها في الوقت الذي صبغ أصحاب اللون الأخضر حياتنا بالسواد والقهر والنكبة!

وليس في المقال أي تسويق لتعاطي القات بقدر ماهو محاولة للغوص في عمق سيكولوجية (نفسية) اليمني التي أودت ظروف الحرب والمغامرات الانقلابية الغبية بآخر أطواق النجاة لديه.

………………………………………………………………………………………………………….

*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى