كتابات خاصة

غدرٌ وعقوق ودم الأخوين!

بلال الطيب

«التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة»، وتاريخ الإمامة الزيدية وفق هذه المُعادلة التي خُلص إليها الفيلسوف الألماني هانريك ماركس، عبارة عن أحداث مُملة تتكرر، وصريع مرير لا يتوقف، ولإثبات ذلك، أترككم وهذه التفاصيل التي تؤرخ لـ «30» عاماً من عُمر تلك الدولة، وعليكم أن تحسبوا كم أعادت الأحداث نفسها. «التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة»، وتاريخ الإمامة الزيدية وفق هذه المُعادلة التي خُلص إليها الفيلسوف الألماني هانريك ماركس، عبارة عن أحداث مُملة تتكرر، وصريع مرير لا يتوقف، ولإثبات ذلك، أترككم وهذه التفاصيل التي تؤرخ لـ «30» عاماً من عُمر تلك الدولة، وعليكم أن تحسبوا كم أعادت الأحداث نفسها.
بوفاة «المهدي» محمد بن أحمد «صاحب المواهب»، صفت الإمامة لابن أخيه «المتوكل» القاسم بن الحسين «1130هـ»، جعل الأخير من صنعاء عاصمة له ولمن بعده من الأبناء والأحفاد، وكان بشهادة كثيرين ظلوماً غشوما، قتل رئيس حاشد وبكيل، المعروف بـ «ابن حبيش» في بيته، وبين قبيلته، وليس مع الصريع من يقوم بالدفاع عنه، كما قام بإقصاء «آل القاسم»، أخذ ما تحت أيديهم من إقطاعيات، وألزمهم بدفع الزكاة؛ خوفاً من تمردهم عليه.
أدعى اثنان من أبناء عمومته الإمامة، إلا أنهما فشلا، وكلاهما تلقبا بـ «المؤيد»؛ الأول يُدعى الحسن بن القاسم «1131هـ»، بايعه أهل شهارة وما جاورها، وذلك بعد وفاة شقيقه «المنصور»، والآخر محمد بن اسحاق، أعلن من أرحب نفسه إماماً «1136هـ»، وما لبث أن أعلن تنازله، بعد أن أقطعه «المتوكل» بلاد الروس؛ بالإضافة إلى «2,000» قرش من عائدات ميناء المخا.
كانت المخا حينها على موعد لاجتياحها من قبل الفرنسيين، فتكوا بالكثير من سكانها، قام أحد حراس الميناء، قيل إنه مجنون، بضرب قائدهم بالسيف، فأرداه قتيلاً، ولم يكن أمام الغزاة بعد ذلك سوى الرحيل.
خرج «المتوكل» ذات جمعه «1138هـ» لاستعراض عساكره، وأثناء تسابق الفرسان مالت الخيل فأفزعت القبائل، أطلق أحد أبناء أرحب النار، فقتل أحد الجنود، فما كان من الطاغية إلا أن قتل به «100» أرحبي، وأسر «600» آخرين، وقد شبه أحد الشعراء الرؤوس المقطوعة بالدنانير المنثورة، وخاطب سيده:
نثرت دنانير الوجوه على الثرى
كما نثرت فوق العروس الدراهم
ألا فاتبع الرأس الذي جب عنقه
لهم ذنباً فالله بالقتل حاكم
ولست مليكاً هازماً لنظيره
ولكنك الإسلام للشرك هازم
 
اختلف «المتوكل» قبل وفاته، مع أقرب الناس له، ولده «الحسين»، عامله على عمران، كان الأخير يتطلع لزيادة نصيبه بالإقطاع، أسوة بأخيه «أحمد»، حاكم تعز، استغل سخط القبائل على أبيه، وقاد الجموع الغاضبة صوب صنعاء؛ التقى الجمعان، وحين لم يظفر أحدهما بنصر، أوعز «الأب» للعلامة ابن الأمير الصنعاني للتدخل، وإصلاح ذات البين.
تم الصلح، ودخل «الحسين» المدينة المنكوبة وأبوه في النزع الأخير، لم يكترث لوفاته «رمضان1139هـ»، وتظاهر أمام أصحابه بأن الأمر لا يعنيه، وفي اليوم التالي أعلن من صنعاء يوسف بن «المتوكل» اسماعيل نفسه إماماً، ومن «حصن ظفار» جدد محمد بن اسحاق دعوته، وتلقب بـ «الناصر».
بعد مضي أسبوع، أعلن «الحسين» نفسه إماماً، وتلقب بـ «المنصور»، والمفارقة الصادمة أن سكان صنعاء بايعوه بعد مبايعتهم لسابقيه؛ كان «يوسف» الحلقة الأضعف في ذلك الصراع، خذلته القبائل، فآثر العزلة والانطواء حتى مات في عمران بعد عدة أشهر، ليتفرق أنصار الإمامة بين معارضيه، كانت كفة «الناصر» هي الأرجح، كونه الأحق بالإمامة، والمستوفي شروطها، بسرعة خاطفة سيطر أقاربه على نواحي اليمن، عدا تعز التي ظلت بيد حاكمها.
ناصر رئيس حاشد الشيخ علي بن قاسم الأحمر الإمام «الناصر»، متنكراً للصداقة التي كانت تجمعه بـ «المنصور»، أستدعاه الأخير للتشاور، ليقتله غدراً بـ «عصر»، احتز رأسه، وحمله في وجوه القبائل، وهو يصرخ: «هذا هو رأس صنمكم»؛ دارت حينها مناوشات محدودة، أسفرت عن قتل الوزير حسين الحيمي، وقد صور أحد الشعراء المشهد بقوله:
فيالها فتكة في الدين كم شرحت
صدراً وكم نهجت للحق من نهج
رجع «المنصور» إلى صنعاء ورأس صاحبه محمول على رمح، الأمر الذي ألب عليه أنصاره من مشايخ بكيل، أتجه الجميع لمبايعة منافسة، فما كان منه إلا أن بايع مع جملة المبايعين؛ واشترط أن تكون صنعاء ومواضع أخرى سماها تحت تصرفه، وكان له ما أراد.
لم يدم الصلح طويلاً، جدد «المنصور» دعوته، وهزم «الناصر» شر هزيمة، وأسر أولاده واخوته، وقد كان لاستمرار سيطرة شقيقه «أحمد» على تعز أثره البالغ في ترجيح كفته، تخلى الأنصار عن مناصرة «الناصر»، الذي رفع راية الاستسلام، وبايع «المنصور» مُكرهاً «1143هـ»، مُعلناً تفرغه للعلم والعبادة، مشترطاً بقاء عائدات كوكبان تحت تصرفه، فكان له ما أراد.
عُرف عن «المنصور» كرهه الشديد لسكان صنعاء، لم ينس إتهامهم له بالعقوق حين أختلف مع أبيه، وسخريتهم منه لذات السبب، أسرها الطاغية في نفسه، وحين أستتب له الأمر تفنن في إذلالهم، جعل منازلهم مُستباحة لرجال القبائل، وألزمهم بالخروج منها لإيواء القادمين، ولم يكن أمام الأهالي المُتذمرين، سوى الصبر والإلتزام.
كان «المنصور» بشهادة كثير من المؤرخين ظالماً غشوما، مُذلاً لسكان المناطق الشافعية، ألمح «ابن الأمير» إلى ذلك، بقصائد ومكاتبات شهيرة، وهي بشهادة كثيرين، ثورة كبرى على تلك الأوضاع، كان لها ما بعدها، وقد تعرض «ابن الأمير» لأكثر من محاولة اغتيال، ومنع من إلقاء خطبة الجمعة، وتم التضييق عليه إلى أبعد حد؛ رغم أنه هاشمي النسب.
يقول «ابن الأمير» مخاطباً «المنصور» وأباه:
وقد كنتم ترمون من كان قبلكم
بظلم وجور قد جرى في العشائر
وقلتم نرى المهدي قد بان جوره
لكل سميع في الأنام وناظر
صدقتم لقد كان الظلوم وإنما
بظلمكم قد صار أعدل جائر
لم تكد أحوال دولة «المنصور» تستقر، حتى بدأت البلاد تتناقص من أطرافها، وكان لانهيار تجارة البن وتحول مستورديه إلى «جاوه» أثره البالغ في ذلك، ليتحقق في العام «1145هـ» انفصال لحج وعدن، على يد السلطان فضل العبدلي، انكمشت حينها خارطة الإمامة، وتشكلت سلطنات صغيرة عمت الجنوب اليمني حتى حضرموت، وصلت فيما بعد إلى حدود «22» إمارة ومشيخة.
ومن شهارة جدد الحسن بن القاسم دعوته «1152هـ»، وتلقب بـ «الهادي»، استولى على حراز وأطرافها، إلا أن القدر لم يمهله، ليختلف «المنصور» في ذات العام مع أقرب الناس إليه أخيه «أحمد»، الذي انفصل بتعز والحجرية، دارت بينهما حروب، قتل فيها الكثير من الجانبين، كانت تلك المناطق مسرحاً لفصولها الدامية، دفع سكانها المسالمون الكثير ثمناً لذلك، من أنفسهم، وأموالهم، وراحة بالهم.
بعد وساطات مُكثفة، توصل عدد من العلماء لحل الخلاف الدائر، اشترطوا بقاء تعز ومخاليفها تحت نفوذ «أحمد»، على أن يُعلن ولاءه لـ «أخيه»، لم يمض من الوقت الكثير حتى تجدد الصراع، وقد قدم حينها أحد الشعراء حله الناجع لذلك الإشكال المُتجدد، قائلاً:
صنوان قد سقيا بماء واحد
 والفضل خال من كلا الأخوين
جرحا قلوب العالمين فما لها
من مرهم إلا دم الأخوين
توفى «المنصور» الحسين «1161هـ»، ليتجدد الصراع هذه المرة بوتيرة أشد، بين «المهدي» عباس، الإمام الجديد، وعمه «أحمد»، صحيح أن مساعي «ابن الأمير» ساهمت في تلطيف الأجواء، إلا أن الخلاف لم ينتهي إلا بوفاة «العم» بمدينة تعز، تاركاً ذريته هناك، وهم من عرفوا فيما بعد بـ «بيت الباشا»، وكم كان الشاعر المجهول محقاً في تشبيهه، إذا ما اعتبرنا «دم الأخوين» نهايتهما. 
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى