تميزت حركة 15 يناير للثورة الطلابية والشبابية السلمية 2011، بالجموح الوطني النقي لمؤسسيها وأعضائها الذين جعل القدر على عاتقهم أن يكونوا بؤرة الثورة اليمنية الشعبية، التي امتدت لتجعل اليمن شاسعة الحلم وليست كثقب إبرة، بحسب ما أراد كل الذين وقفوا ضد حلم التغيير الجامع. تميزت حركة 15 يناير للثورة الطلابية والشبابية السلمية 2011، بالجموح الوطني النقي لمؤسسيها وأعضائها الذين جعل القدر على عاتقهم أن يكونوا بؤرة الثورة اليمنية الشعبية، التي امتدت لتجعل اليمن شاسعة الحلم وليست كثقب إبرة، بحسب ما أراد كل الذين وقفوا ضد حلم التغيير الجامع.
ولقد نزل شباب وطلاب 15يناير إلى الشارع، قبل أي قوة أخرى، بعد تأثرهم بشباب تونس وثورتها العظيمة ضد الإحتكار، مؤمنين في الوقت ذاته، بنضوج الظروف المناسبة، لثورة يمنية سلمية من أجل الكرامة والحرية والعدالة والوعي الوطني التقدمي السليم..
وكما أتذكر لبى نداءهم -إضافة إلى بيان القطاع الطلابي للحزب الإشتراكي الذي كان له السبق حزبيا في النزول إلى الشارع يوم 16 يناير- أهم قادة منظمات المجتمع المدني الفاعلين، والنشطاء الأحرار في صنعاء، حتى صارت خلال الأسبوعين الأخيرين من يناير 2011: شعلة إرادة خلابة، تتوقد بالصرخة المقدسة “الشعب يريد إسقاط النظام”.
ومن خارج أطر السياسة التقليدية، جاء شباب وطلاب 15 يناير، مدشنين الإحتجاج النوعي، لإزاحة معضلات متجذرة حولهم؛ لذلك فإنهم النمط السلمي المدهش، في الاعتراض على خداع الشعب واستغلاله، كما في استجلاب المواطنة المتساوية والرقي الرافض للاستلاب، ولئن كانوا يأملون بمستقبل أجمل لبلدهم، كانوا أكثر استيعابا لأهمية إستعادة الإعتبارات الجوهرية للثورات الوطنية الأم سبتمبر واكتوبر، والتي للأسف جرى حرفها على مدى عقود كما تم تجريفها.. وأما شباب وطلاب 15 يناير فقد كانوا مع ضرورة إعادة الإعتبار للوحدة أيضاً ومعالجة القضايا التي تسببت بها سياسات العنف والإقصاء والاحتكار، وذلك باعتبار الوحدة هي شكيمة الشعب وأنبل كفاحاته، مطالبين في الوقت ذاته بإعادة بناء الدولة الوطنية على أسس ديمقراطية تحديثية حقيقية، لتكون دولة مؤسسات معتبرة، تحتكر السلاح، ويسودها القانون.. دولة الشعب لامراكز الهيمنة والنفوذ، دولة للتطور وللتقدم، يزهو بها الشعب، ويعتز بقيمها الكبرى في السلام وفي التنمية وفي الكرامة وفي الإنتاج وفي العدالة الإجتماعية .
وللذاكرة وللتاريخ وللضمير وللمسؤولية: كانت مظاهرات شبابية وطلابية في صنعاء، قد بدأت منذ 15 يناير بعد تنحي بن علي في تونس، ويوم تنحي مبارك مصر في11 فبراير حدث الاندلاع العظيم في تعز، وصار ذلك التاريخ مصهرا لحدث الثورة الشعبية اليمنية، حيث بدأ الاعتصام هناك، حتى كبرت الإحتجاجات والمطالب الشعبية المشروعة في عموم البلاد، جراء أكوام من المظالم، والمشكلات الناشبة في الدولة والمجتمع على السواء.
والشاهد أن كل التوجهات حينها كانت ضد التضييق السياسي والأمني والتدهور الاقتصادي وازدهار الإفساد والافقار والاقهار، وبالتالي فإن مضامينها الوطنية مع الاصلاحات والتصحيحات والفعل النهضوي، واستنهاض جذوة الشعب، لا دوام اهانته.
أما الآن، فإن أهم سؤال يطرح نفسه وبشفافية قصوى، هو كيف وصل الحال في غفلة غامضة، بعديد دول إلى مساعي تقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ والاحتراب الأهلي، واسع النطاق، إضافة إلى حدوث مختلف التعقيدات التي شكلت مصدات استشراسية ضد التغيير، عبر التجاذبات الاقليمية والدولية خصوصا.!
يليه سؤال: إلى ماذا سيفضي اختفاء الكيانية الوطنية للدول مع ترسخ حالة الفوضى فقط؟
ثم: هل كانت هناك توجهات إقليمية ودولية مضمرة لضرب الشعوب وتفكيكها باستغلال أحلامها مثلا؟
وماذا عن إشكالية بناء الدولة وتنمية المواطنة، في ظل السلاح المنفلت المكدس بيد جماعات متعصبة، ومراكز نفوذ ذات هموم شمولية واصطفائية؟
وفوق ذلك.. علينا إستعادة أهم مؤثر في الثورات الشعبية، والمتمثل في البعد الانقسامي الذي اصطدمت به الثورات بسبب الخلل الجوهري في مفهوم الجيش، بحيث استمرت ولاءات الجيش لصالح قوى ماقبل وطنية في أكثر من بلد.
والحال إن المراجعات، تتطلب انتقادات صريحة خالية من العاطفة والرومانسيات.. بينما هذه المراجعات لا تعني -حسب ما يردده تجار الثورات- تجميل وجه الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب، وإنما تعد وقفة جادة تبحث عن حقيقة ما جرى، وتسلط الضوء على الانحرافات التي اوصلتنا إلى ما نحن فيه في أكثر من بلد.
للأسف.. صارت دماء الشهداء -وهم ايقونتنا الخالدة- تذكرنا بحقارة الأصدقاء والأعداء معا، من الذين اعتبروها جسرا لتثبيت غنائم الانتقامات والمصالح .
كما صارت الأنظمة، منذ حلول 2011 تتذرع بحلول الفوضى، للتأكيد على خطابها التخويني والقمعي للثوار السلميين، في حين صار غالبية الثوار بلا أفق ناضج، لا يعرفون إلى ماذا ستؤول إليه الأمور بعد تعالي صوت السلاح، وتحول الفعل السلمي لفعل احترابي أهلي، وتسرب الاجندات الارهابية في وعي الثورات لتدنيسها من الداخل، تقويضا لقيمة الثورات السلمية ذات المعاني الثقافية والإجتماعية والسياسية الفارقة .
واما البلدان التي انهارت، فلم تعد صالحة لا للثوار ولا للأنظمة التي ثاروا عليها ، وهو ما يبدو عليه الحال الآن في أكثر من بلد.
غير أن الأهم من ذلك كله -والصادم تماما- هو انكشاف المعارضة ، بل اختلالات واعتلالات المنظومة السياسية بأكملها وبالذات في اليمن -أثناء وبعد الثورة- من خلال عدم قدرتها على التعامل مع التحديات ، والوصول إلى حالة خسران للحظة التغيير التاريخية -إذا جاز التعبير- مع الأخذ في الإعتبار نجاح النظام -بعد المبادرة الخليجية وحكومة التحاصص التي انتجت آليات عمل ضد مضامين الثورة نفسها- في الإستفادة من حالة الاحتقان الشعبية الناتجة عن ذلك، وتوسع الشرخ الوطني لصالح النظام بالطبع .
ولقد ساهمت في هذا المسعى الخذلاني، حالة الجمود السياسي وانتهازيته من ناحية، وما اضمرته كيانات وأطراف من داخل الثورة من ناحية أخرى، لنكتشف لاحقا وقوفها مع مضامين الثورة المضادة على أكثر من صعيد.
ولئن جاء مؤتمر الحوار الذي برغم مخرجاته شبه الاجماعية، المتمحورة على فكرة ما زالت على الشجرة، واعني دولة الأقاليم الاتحادية، فلقد تناسى الجميع انها فكرة تأتي وسط ظروف غير طبيعية وانفعالية، كما في خضم أداء انتقالي ركيك واستضغاني، يؤهل لفقدان شبه الدولة التي في اليد فقط، وهكذا اتضح لنا أن الشجرة إياها لم تثمر شيئا واقعيا مختلفا سوى الجماعة الحوثية، التي وجدتها فرصة لا تعوض لتفعيل هاجسها المسلح، مرورا بتماديها في تأجيج الشحن العصبوي، إلى أن تم إستئناف الحرب التي كانت بين الحرس والفرقة بحرب شاسعة هي حرب الميليشيا ضد الشعب، ومن هنا انزلقت البلد للغرق في مأساة الحرب، إذ راحت الميليشيا التي توافقت مع التوجهات التطييفية الإيرانية في المنطقة، فضلا عن الإرهاب الذي زاد تخصيبا بها، يزدهران للثأر من كل ما يمثل أي معطيات للمشروع الوطني، وكذا لطمس كل الممكنات والمتاحات التي كانت قد تراكمت لإنقاذ اليمن.
ثم بفعل هذا التأسيس البغيض لمرحلة حرب الوكالة الاقليمية، دخل التحالف السعودي في الخط ، كما انسجم معه أكثر من طرف محلي لأسبابه الخاصة.. وحتى الآن لم يبدر عن تصلبات الحوثيين وحلفائهم، والسعوديين وحلفائهم، سوى تفاقم المأساة والتدمير المزدوج، والاصطفافات العنفية الحادة التي لا تقبل أي صوت خارجها. وعليه، فإن كل الحيثيات السابقة والمتشابكة، يجب ان تجعل المقاومة التي تقول انها نهضت للتصدي لكل العبث الذي صنعته الميليشيا، تتجنب الوقوع في الحسابات الخاطئة وتكرار الاخفاقات، وتعليق مصيرها لقوى النفوذ الداخلية المتصارعة فيما بينها على الإمتيازات والغنائم والولاءات الخارجية، غير الوطنية فقط، وليس على مشروع دولة الشعب، مشروع الدولة ذات السيادة التي لجميع اليمنيين.. بل ينبغي عليها استيعاب أن المتربصين يحيطون بها من كل ناحية، ولعل الخطر من داخلها عليها، سيكون أسوأ وهو لا يرتق كل الهويات المفككة للنسيج الوطني، في هوية وطنية واحدة، ترتقي بالذات اليمنية، كما ينبغي .
وأما بسبب استمرار عدم التنازلات، ونقل الصراع الى مسارات غير سياسية، إضافة إلى فشل الشرعية والانقلاب حتى الآن، في تعبيد أي مسار للتطور وللنهوض بهذا البلد، فإن الحرب الشاملة التي لا يعرف أحد إلى أين ستنتهي، هي التي ستستمر فقط.. ولعل كل عاقل يخشى أن تكون من أبسط نتائجها الصوملة ونسيان العالم الذي بلا ضمير لليمنيين .
ولذا فإن مناسبة مرور 6 سنوات على حركة 15 يناير للثورة الطلابية والشبابية السلمية، يجب أن تجعلنا نلتفت للخلف قليلا، وبكامل الموضوعية، لندرك أين نحن مما كنا نريد.. وإلى متى سيستمر الجحيم المزدوج مفتوحا.. وهل سيحمل المستقبل إمكانية تصحيح المسار، وعقلانية التقييم، لإنقاذ أحلامنا الجمعية من براثن التمزق وتكييف الإرهاب، وتطييف الصراع السياسي، واستمرار حالة اللادولة .
إنها أسئلة موجعة لا شك كجردة حساب، ولاتستطيعها إلا الأرواح الكبيرة، المتجاوزة والمستبصرة، في حين أن مختلف التداعيات والتناقضات والتحولات التي فاقت المخيلة، تفضي إلى ضرورتها كلحظة استدراك واعية، لابد منها، لاستنطاق جوهر الهدف التغييري المشروع من ناحية، والبحث في جوهر كل إرث الصراعات السابقة المتراكمة والقائمة، شمالا وشمالا، وجنوبا وجنوبا، وشمالا وجنوبا أيضا.
ما بالكم وأن مآلات الصراعات المضادة لروح الثورة الشبابية الشعبية السلمية أصلا، هي الأكثر تغلغلا في المشهد اليوم، وهو المشهد المفتوح على احتمالات مابعد خطيرة، لم تكن في الحسبان يوم 15 يناير الحالم.
لكن مابين تلك اللحظات التأسيسية الملهمة، وما نحن فيه حاليا والمستقبل المجهول: ترى إلى أي مدى يمكن القول أن نخب الثورة قبل غيرها قد استوعبت الدرس؟
وتحديدا، إلى أي مدى مازال الشباب الحر، يمثلون المعرفة المتجددة والخلاقة، والأكثر حساسية، وتوقا للمستقبل الضامن. ثم كيف يمكن أن يستمروا أكثر انفتاحا على الآخر، وروحهم زاخرة بالتجاوز الإيديولوجي، وهم الذين جعلتهم أدوات العصر، كمصابيح متوهجة في زمن قياسي، رافضين خيار الأمر القدري الجاهز، الذي جعل السياسين المعتقين في البلد، مجرد مهلهلين، وبلا مخيلة .
يقيني أنه على الرغم من كل التجاذبات والتجييرات المقرفة، بسبب كوارث مرحلة الحصانة والتحاصصات وموفمبيك والتمديد لهادي والانقلاب الفظيع، وصولا إلى الحرب والتدخلات، سيظل الشباب أكثر تجنبا لوعي الشقاق والضمور اللاوطني، عبر إعلائهم لمبدأ الإيثار الوطني لا الحزبي أو المناطقي أو المذهبي، إضافة إلى ترسيخهم لقيمة وفاعلية المشتركات الوطنية العليا، مهما بلغ بينهم حد الخلاف الفكري أو مستوى التباينات السياسية.. فهم الجيل الأكثر اتساقا مع الرشد الوطني الديمقراطي، والأكثر تعافيا من أمراض الكيد الجهوي والطائفي.. والخلاصة أنه في الخامس عشر من يناير، أعشبت فوهات البنادق التي كانت مصوبة إلى صدور الشعب السلمي، وأما من خلال التمثل به -والتحصن من مختلف أسباب الانتكاسات والنكبات- يمكن صنع الدهشة مجددا، وبالذات ما دامت جذوة اليمن، كل اليمن، هي البوصلة، لاغيرها!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.