كتابات خاصة

فقهاء قلع العدَّاد!

حسن عبدالوارث

يجنح الطرف الأول إلى معارضة الطرف الآخر، أو محاولة استمالته إلى سبيل الرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة.. فيما ينزع الحُكام إلى قمع الحكماء، أو محاولة تدجينهم تحت جناح العرش بالترهيب أو الترغيب أو بالوسيلتين معاً.

منذ زمن سحيق، كان ثمة صراع -ولا يزال- بين أهل الحكمة وأهل الحُكم.
يجنح الطرف الأول إلى معارضة الطرف الآخر، أو محاولة استمالته إلى سبيل الرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة.. فيما ينزع الحُكام إلى قمع الحكماء، أو محاولة تدجينهم تحت جناح العرش بالترهيب أو الترغيب أو بالوسيلتين معاً.
وقد أثبتت التجارب ومُدوَّنات التاريخ -في هذا المضمار- أن الساقطين في شَرَك التدجين، من العلماء والفقهاء والأدباء وأهل الحكمة والفكر والكلام، يغدون وبالاً على الحُكام والحكمة معاً.
إنهم يخدعون أهل الحكم بقلب حقائق الأحوال، وهذا يتعارض مع صميم رسالتهم.. وهم يحولون دون استبصارهم بمجريات الأمور وأهلها، وذلك يناقض طبيعة واجبهم.. وهم يحجبون النصيحة أو يزيفون الفتوى، بالنفاق القائم على هلع أو بالزلفى النابعة من طمع، ثم أنهم يعمدون إلى تضخيم الذات -أو تأليهها- في شخص الحاكم.. وفي ذلك كله هلاك البلاط وزوال السيادة، بل فيه انهيار الأمم واندحار الدول.
وصورة الفقيه -في المشهد المعاصر- قد تتمثَّل في رجل دين، أو تتجسَّد في شخص خبير في السياسة أو الاقتصاد، أو كأستاذ جامعي أو كاتب صحافي أو مثقف ما.
وجلساء الحاكم -في العادة المعهودة- هم من هذا التيار.. وهم الأكثر تأثيراً في القرار، وانْ كانت الغلبة في بعض القرارات لشيخ قبيلة أو قائد عسكري أو تاجر من العيار الثقيل.
إن العلم -على أيدي هؤلاء العلماء والخبراء من “الخُبرة”- يصير نقمة، لا نعمة.. نقمة على الجماهير وعلى الحُكام معاً.. وهو ما شهده عصر الانحطاط في تاريخ الدولة العربية والاسلامية.. ورحم الله الامام أبا اسحاق ابراهيم بن موسى الشاطبي القائل:
“قُلْ للأميرِ نصيحةً:
لا تَرْكَنَنَّ إلــى فقيـــه
انَّ الفقيهَ إذا أتــــــى
أبوابَكُم.. لا خيرَ فيه”.
إن جوهرة الحكمة لا تركع عند أقدام الحاكم، إنما العكس هو ما ينبغي أن يكون.. فهذه الجوهرة هي أغلى وأعلى -بما لا يُعَد ولا يُحَد- من كل تيجان الملوك وكراسي الرؤساء.
وقد جاء رجل من العامة إلى أحد رجال الفقه وهو واقف عند باب أحد الحُكام، ينتظر الاذن له بالدخول. وحاول الرجل استفتاء الفقيه في مسألة أستبهم عليه أمرها، فزجره الفقيه: أو هذا موضع المسألة؟.. فردَّ الرجل: أو هذا موضع الفقيه!
إن أهل العلم والأدب والفكر، وحتى أهل الرأي السياسي، يحطُّون من قدر ما يحملونه من كنوز الحكمة والمعرفة والثقافة أو من رصيد الوعي والرأي والمشورة، عندما يحطُّون من قدر ذواتهم لدى أرباب السلطة والنفوذ.. فلا يوجد -ولن يوجد البتة- حاكم يحترم حكيماً، أظهر آيات التزلُّف والنفاق والمهانة والمذلَّة، وأخفى آيات الحق والحقيقة والشجاعة الأدبية. والحكمة من دون استخدام صحيح هي سَقْط متاع أو قَبْض ريح.
وفي هذا البلد المنكوب بحكامه وبحكمائه على السواء، تزخر الأمثلة وتكثر النماذج في تاريخ العلاقة بين السلطة والمثقف.. أو بين أهل القرار وأهل الكلمة.. أو باختصار: بين القصر والمستشار.
هتف أحدهم يوماً: “لابد من قلع العدَّاد”، في إشارة بالغة المزايدة إلى الرغبة الجامحة في تمديد فترة حكم الرئيس وربما حكم نجله من بعده.. فعلَّقتُ يومها في منشور على صفحتي الفيسبوكية: “هذا لن يقلع عدَّاد الرئيس، بل سيقلع الرئيس نفسه”.. وهذا الذي حدث بالفعل!
وهذا الذي سيحدث دائماً، طالما ظل جلساء الحاكم من أهل الرأي الأسود، لا الرأي السديد، ممن يقلعون العدَّاد في لحظة نزق سياسي أرعن، أو لغاية نفعية دنيئة!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى