كتابات خاصة

خلف رحيل العبسي

سلمان الحميدي

قبل أشهر، اعتذرت له من عدم قدرتي على حضور حفل زفافه، لقد حاز على فرادة البهجة بتجميعه هندامًا ملفتًا لملمه من كافة مناطق البلاد، جلبت له الأعذار التي تحول بيننا وبين أمانينا في الوقت الراهن: ظروف الحرب المقيتة التي فرقت بيننا يا صاحبي. قبل أشهر، اعتذرت له من عدم قدرتي على حضور حفل زفافه، لقد حاز على فرادة البهجة بتجميعه هندامًا ملفتًا لملمه من كافة مناطق البلاد، جلبت له الأعذار التي تحول بيننا وبين أمانينا في الوقت الراهن: ظروف الحرب المقيتة التي فرقت بيننا يا صاحبي.
بالعذر ذاته لم أقدر على حضور مراسيم الدفن. لقد تلفع العزيز محمد العبسي كفنًا أبيض، وحده هذا الكفن من يوحد الأجساد في كل البلاد، لقد عجزت أن توحدنا أثواب الفرح. هذا هي الحقيقة المنسوجة في عرض البلاد وطولها، أتت المليشيا برعاية من صالح ليس للتشبع بطراوة الدم الدافق، بل وقطع الصلات بين الناس.
يُقرأ الواقع أحيانًا من طقوس الوداع الأخير. عندما مات يحيى علاو، قدّم الكاتب محمد الغابري قراءة تحليلية للواقع من الأحداث التي رافقت الموت، لقد اقتنص خبرًا تداولته وسائل الإعلام الرسمية الممجدة لعلي صالح حينها، الخبر فحواه: الصلاة على الميت في “جامع الرئيس الصالح” ومُوارة الثرى في “مقبرة الشيخ الأحمر”. كانت الرمزية مفجعة، رمزية سياسية قبلية تهيمن على البلاد، وكان المُبدع “علاو” صورة مصغرة لشعب يُراد له أن يعيش كجثة، لن يبخلوا بإرسال التعازي والصلاة عليه، فالطريق قريبة من جامع الصالح إلى مقبرة الشيخ.
كان محمد العبسي مستشارًا لجريدة الأهالي التي نشرت الموضوع بجرأة ووضوح بالغين، لا شك كان العبسي آسيًا من هذه الحقيقة التي أظهرها الغابري، ولكنه فرحًا بقوة المادة: هكذا فليخض الخائضون ويكشفون واقعهم حتى من الجنائز.
انخمدت السطوة القبلية للأحمر مع ثورة 2011، رغم أمنيات الجيل الناشئ لإعادة السطوة، حل محلها أشياء كارثية تريد أن تفرض نفسها بذريعة الحق الإلهي، هذا ما كان مؤكدًا قبل رحيل محمد عبده العبسي، سيبقى جامع الصالح وسيفتح له أفرع جديدة لتفي باحتضان المصلين على الجنائز، أما السطوة الحوثية التي حلت محل القبيلة، فلها السبق بتوفير المقابر الجيدة المزينة بأحجار الحبش لتبدو مرتصة بانتظام.
هكذا سيقرأ الموت إذن: القوة البغيضة مسؤولة عن وحدة المقابر، الطرف المليشاوي يحتجز الجثث، موتى بلا قبور. ومن يتوفر له قبر تحرم المليشيا أهله، أصحابه، مقربيه، من النظرة الأخيرة.
المعذرة يا صاحبي.
لم أحضر جنازتك بسبب الحرب. بسبب الحوثيين أنت في مدينة وأنا في أخرى. لقد قلت لك سابقًا إن المليشيا حرمت أمي وأبي وأنا من النظرة لأخيرة لأخي الذي استشهد في مدينة تعز، لم نتمكن من اجتياز خط الحصار. يا للمفارقة، كان اسمه مثل اسمك.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى