تحول النظام السياسي للإمامة إلى “فكرة” يعطيها خطراً أكبر من عودة نظام حكم يسعى للعودة إلى السلطة. كما تعيش الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، ارتبطت الإمامة بموروث نظام حكم كهنوتي استمر أكثر من ألف عام في اليمن فغرست جذورها في دائرة الوعي اليمني عبر مغذيات الإدراك العقلي بعمق السنين التي حكمت، ولذلك ظلت الإمامة “الفكرة” حتى بعد أن أسقطت ثورة 26 سبتمبر (أيلول) 1962م، بنيتها السياسية. مثلت الإمامة ارتباطاً باليمنيين ليس فقط كنظام سياسي بل حتى كنظام اجتماعي و ديني وعرقي، وبسبب مراحل اللاستقرار الدولة اليمنية بعد إعلان الجمهورية ظلت بؤر داخل الأنظمة الاجتماعية والدينية والعرقية تعيش من أجل عودتها إلى النظام السياسي من جديد.
تحولت (الإمامة) من نظام حكم (ملكي-وراثي) يتغذى باسم الدين متكئاً على الهوية الفرعية “الطائفية” وفق “مبدأ الولاية”، إلى “فكرة” لها جذورها “السياسية” و “الاجتماعية” و “الدينية- المذهبية”، ما يعطياها خطراً يفوق جذور نظام حكم يحاول العودة عبر ثورة مضادة، فلا يمكن تصنيفها حتى في إطار التيارات السياسية التي تحمل فكراً مثل “الاشتراكية” و “القومية” أو حتى “الإسلاموية”، وهذه البنية “الفكرية” التي بقت بعد اسقاط النظام السياسي، تطورت و “تخلقت” وعندما تجد البيئة المناسبة تنهض من تحت الرماد بشعارات والتواءات جديدة. فلا يظهر في وعي معتنقيه بصفته “إمامياً-سلالياً” بل يظهر كـ”مظلومية” تتعرض للإقصاء والاضطهاد، ولو ظهر بصفته الحقة أثناء استنهاضه في عامة الناس لرفضوه وأظهروا “الريبة” وقاموا بمواجهته، في كونه يصارع ارتباطات الوعي بسوء واحتقار النظام الإمامي-السلالي- للإنسان اليمني خلال فترات الحكم الطويلة.
عند تنظيم الإمامة جنودها تستهدف عائلات بعينها -ارتبطت بالتجنيد أثناء الحكم الكهنوتي- فتلاحق إظهار “الأفضلية” على باقي البشرية بكون الشخص جزء من الرسالة المحمدية وفق جينات “أبناء الرسول”، و”إرث سبطي النبي محمد الحسنين”، وتبدأ معها “العنصرية” خارج المدركات الحسية للمجتمع المحيط، ما ينعكس على العلاقات الاجتماعية والتزاوج، مع ظهور تلك المظاهر يبدأ الأقدمون في دخول الإمامة في مرحلة التأصيل الديني، والتغذية المذهبية وساهم انعزال فقهاء الزيدية الحقيقيين إلى ظهور حاملين للمذهب ليسوا من الزيدية ولا يحملون أي صفات للمذهب الأكثر إنسانية ودعوة إلى المساواة ورفض الضيم والظلم، وكان لغياب دور ومراكز الزيدية في البلاد دور واسع في ظهور جيل “حسين بدر الحوثي” و “والده من قبله”، ويمكن قراءة “مُسند الإمام زيد” للتعرف على نظرته وروايته للأحاديث المتواترة. فعلاوة على اختفاء تلك المراكز التي كان يفترض أن تكون تحت رعاية الحكومة والدولة؛ استحوذ الإماميون الجدد على الجامع الكبير في صنعاء، ونشروا منذ ثمانينات القرن الماضي مبعوثيهم في القرى النائية التي كانت تمثل عمقاً للمذهب الزيدي طوال قرون مضت.
ساهم “الجهل التعليمي” و “الفساد” السياسي و افتعال “الفوضى” في مراحل الانعطافات التاريخية خلال حكم “علي عبدالله صالح” إلى ظهور الإمامة بعدة أوجه بصفتها “الحامية للعقيدة وللديار” فاتخذت من استعادة المذهب”الزيدي” درعاً واقياً لتبرير تمرداتها وانقلاباتها، ومدافعة عن “الهاشمية” التي تزعم إخراجهم من “المظلومية” التي لم تكن في عائلات بقدر ما كانت معاناة كل اليمنيين باختلاف مراكزهم الاجتماعية والسياسية والدينية.
هنا تصدرت عائلة الحوثيين بصفتها ومكان تواجدها “صعدة مركز الهادوية” لتوجد لنفسها الجماعة التي تستخدم الحواضن “الهاشمية” و “الزيدية” و “القبلية” وتستغلها من أجل خدمة “الحق الإلهي الموعود” والتمهيد لحضور المهدي المنتظر -كما تشير بذلك الأدبيات الاثنى عشرية المتأصلة في دراسات الجماعة وفكرها- داعية إلى استعادة “حق الإمامة” الأزلي بالسيطرة على الحكم من البطنين، وهو بطن واحد فقط يتمثل في العائلة الحاملة للراية في زمانها ومكانها. ولذلك كانت العديد من كبار العائلات الهاشمية -بصفة الألقاب وليس العرق الآري- رافضة لتصرفات الحوثيين، ومعظم فقهاء المذهب الزيدي رفضوا حراك الجماعة، فالتغيير فُرض بصناديق الاقتراع و الديمقراطية المرتبطة بالتعددية السياسية والفكرية هي الملجأ لإدارة الدولة اليمنية الحديثة، حتى أوجد “الحوثي” حاضناً خارجياً ممثلاً في إيران، فقوى من نزعته منذ الثمانينات عندما غادر يمنيون للدراسة في الحوزات الشيعية، وزاد عدد أنصاره الخريجيين من مغذيات الإدراك العقلي، فأصبحت الزيدية والهاشمية مصدر خطر بنظر الآخرين نتيجة سياقات اللاوعي الباطن الذي خلفه الاستبداد الديني-العنصري لنظام الحكم الإمامي، حتى الزيدية والهاشمية أصبحت قلقة من تصدر الهتاف بإسميهما خوفاً من انتقام (الآخرين) وهنا وقع بعض المثقفين في فخّ “العزل” و “الحصر” ضد كل ما هو منتني لـ”الهاشمية” أو “الزيدية” وهو ما خدم الحوثيين، كما أن العامة من الناس في مناطق الوسط والجنوب باتوا أكثر سخطاً على كل ما هو قادم من المحافظات الشمالية بوصفه “زيدياً”-“حوثياً” وكانت نتيجة سعى لها الحوثي طويلاً ليضم المعارضين له إلى صفوفه، ومع ذلك يقاتل “الزيود” و”الهاشميون” ضد الحوثيين كيمنيين أنقذتهم الجمهورية من ظلم “الإمامة” فأنظمة الإمامة المتعاقبة كانت تمارس استبدادها عليهم بصفتهم رعايا مثل البقية ويعملون في “الجُندية” وفي شؤون “الجباية” للحاكم، فيما الحكم كان في عائلة واحدة وتفرعاتها.
صنع الهاشميون والزيديون والقبائل والشوافع والاشتراكيين واللبراليين والمركز والأطراف (المناطقية)، هوية وطنية جامعة بعد ثورة 26 سبتمبر/أيلول ويخشى الجميع من تجريفها، التجريف الذي يعود معه صراع الهويات واستغلالها كما استغلتها أنظمة الإمامة، وعندها ستبقى “الفكرة” الإمامة الملكية تؤسس نظامها مع كل تجريف ومع كل شروخ مجتمعية تظهر، وكلما غابت الشروخ كلما اختفى الإماميون وتولدت روح الجمهورية الثانية.
حتى إن انهار الحوثيون وسلموا كل أسلحتهم بانتصار الدولة وعودة مؤسساتها فما زال أمام الحكومات المتعاقبة والمثقفين مشوار طويل وهام لوقف “المغذيات” للإدراك العقلي من الاستمرار في إفرازات “الإمامة” -الفكرة- حتى لا تتصدر المشهد مجدداً بدءً من التعليم والمساجد وحتى الإعلام ومكافحة الفساد، والاستقرار السياسي والاقتصادي ودولة القانون التي تحمي الجميع.