وفي الحياة السياسية تتجسد هذه الحالة في أقبح الصور وأسوأ الأمثلة، وهي تتسيد حيناً وتضمر أحياناً، غير أنها لا تزول أبداً، اذْ تظل قائمة في الوعي والواقع. هجر النوم جفون رئيس عربي، فقام من مهجعه في الساعة الثانية فجر يوم 15 يوليو 2000.. وتوجَّه صوب ضريح بطل قومي تاريخي عظيم، يُعَد رمزاً خالداً لشعبه ووطنه، فهدمه، ونقل الجثمان الى منطقة نائية. والسبب أنه يثير في نفوس الشرفاء والخيِّرين من أبناء شعبه -حين يمرُّون بالضريح- أروع مشاعر الفخر والعزة وأجمل معاني الكرامة والاباء!
وفي الساعة الثانية فجر اليوم التالي، كنتُ أُعيد قراءة رواية “دكتور جايكل ومستر هايد” للأديب الأسكتلندي روبرت لويس، والتي كتبها في العام 1886.
دكتور جايكل ومستر هايد، شخصيتان متناقضتان لشخص واحد.
وبالرغم من أن هاتين الشخصيتين -أو هذه الشخصية المزدوجة، بالأصح- من الخيال النابت في مشتل الابداع الروائي الانساني النفيس.. إلاَّ أن وجودها لا ينعدم في الحياة الواقعية، ندر هذا الوجود أو كثر في الزمان والمكان.
فالشخصية الانفصامية -أو الشخصية ذات الوجوه أو الأقنعة المتعددة- تتوافر في الحياة بقدر اضمحلال القيم والمُثُل الرفيعة.
وفي الحياة السياسية تتجسد هذه الحالة في أقبح الصور وأسوأ الأمثلة، وهي تتسيد حيناً وتضمر أحياناً، غير أنها لا تزول أبداً، اذْ تظل قائمة في الوعي والواقع.
إن العمل السياسي قد يتطلب قدراً من المناورة والتبطين والتقية لدى ممارسيه.. غير أن تجاوز هذه الحالات الى اقتراف التضليل الضار بالوعي والوجدان الآدمي الجمعي أو التحايل السافر والسافل على مصالح المجموع، يثلم الأخلاق العليا ويهدم المصلحة العامة.. وذلك يغدو عملاً اجرامياً جسيماً يستوجب العقاب الشديد.
…..
…..
ما الذي يدعوني هنا إلى استحضار هذه الظاهرة الشاذة في الحياة العامة، والحياة السياسية على نحو خاص؟
إنها حالة الـ “شيزوفرينيا” التي تسكن وعي ووجدان مجموعة غير محدودة من المشتغلين بالعمل العام، وفي الوسط السياسي بالذات.
فهم مع الديمقراطية، ما دامت هذه الديمقراطية قائمة بعيداً عن قاماتهم وقوائمهم!
وهم مع حرية الصحافة، ما دامت هذه الحرية تنام كالحورية بين أحضانهم!
وهم مع قضية المرأة، إذا كانت المرأة المقصودة لا تمُت اليهم بصلة رحم أو نسب أو نكاح شرعي!
وهم مع أسمى القيم والمُثُل والأخلاق إذا كانت لا تتعارض مع رذيلتهم أو تتقاطع مع انحطاطهم!
إن هذه الشخصية الانفصامية هي التي تحكَّمت بمفاصل السلطة والقرار في هذه البلاد طوال تاريخها الحديث والمعاصر.
وهي التي لا تزال تحكم وتتحكم اليوم.. وربما ستظل، إلى ما شاء الله.
فما زلنا نسمع من يتحدث عن زهده في السلطة، وعند أول فرصة سانحة يهدم البلاد كلها على رؤوس أهلها، في سبيل العودة إلى كرسي الحكم، ولو بلبوس جديد، وبقناع مختلف، وبدُمى يستخدمها للظهور على مسرح العرائس، فيما يظل هو في الكواليس!
إن دكتور جايكل ومستر هايد ليسا شخوص رواية أو أبطال مسرحية، إنما هم كائنات حية ومنتعشة جينياً في أوساطنا ومجالات حياتنا كلها.. غير أن أحقرها على الإطلاق تلك الرابضة على كرسي السلطة الغاشمة.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.