“سوق علي محسن” رواية الكوكباني عن انتقام أحقاد السلطة من الربيع اليمني
تصدّر الكاتبة اليمنية نادية الكوكباني روايتها “سوق علي محسن” بهذه العبارة: «كان العام 2011 عاصفاً بنظم عربية هشة. وتتابع إلى أن الشعوب قد خرجت إلى الشوارع مطالبة بالتغيير، وأن العقليات البوليسية توهمت أن العنف سيلئم جراحها. ولكن، إذا كانت هذه المتابعة صحيحة، فهل صحيح أن تلك الأنظمة كانت هشة؟ وما الذي نراه إذاً منذ قرابة ست سنوات في اليمن أو في سوريا؟
يمن مونيتور/ صنعاء/ متابعة.
تصدّر الكاتبة اليمنية نادية الكوكباني روايتها “سوق علي محسن” بهذه العبارة: «كان العام 2011 عاصفاً بنظم عربية هشة. وتتابع إلى أن الشعوب قد خرجت إلى الشوارع مطالبة بالتغيير، وأن العقليات البوليسية توهمت أن العنف سيلئم جراحها. ولكن، إذا كانت هذه المتابعة صحيحة، فهل صحيح أن تلك الأنظمة كانت هشة؟ وما الذي نراه إذاً منذ قرابة ست سنوات في اليمن أو في سوريا؟
تنفتح الرواية على يونس الحوتي، ابن الثالثة عشرة، يحلم بصيصان ملونة تخرج من الأقفاص وتتقافز مذعورة بلا هدى، وترتطم بالجدار فتتكوم نافقة: كومة من الألوان. ولعل للمرء أن يصل بين هذه البداية الحلمية وبين نهاية الرواية بعد شهور من «ربيع اليمن»، حيث يذهب الربيع بدداً، فهل هي إيماءة الرواية إلى بدد الحلم – الربيع – الثورة، وإلى ارتطام الشباب بجدار النظام، لكأنهم صيصان ملونة نافقة؟
تلي حلم يونس بداية أخرى للرواية بهتاف شباب جامعة صنعاء: “ارحل”، يوم 11 شباط ( فبراير)2011، وهو الهتاف الذي تواصل منذ سقوط بن علي ومبارك، مثل صنوه: الشعب يريد إسقاط النظام، بينما عصا النظام الغليظة تلاحقهم. وما إن تغادر الرواية بدايتها حتى تشرع بالسير في خطين: حياة يونس في الفصل الأول المعنون بأحلامه، فحياة صديقه مهدي الريمي ابن السادسة عشرة في الفصل الثاني المعنون بأحلامه، فحياة الفنانة التشكيلية صبحية المعنون بأحلامها، فالخاتمة “أحلام في الانتظار”.
وبالتوازي والاشتباك مع تلك الحيوات، تأتي يوميات الثورة. وأول ذلك هو عمل يونس في محل لذبح الدجاج وبيعها في سوق علي محسن ومضيّ والده – بائع الفاكهة على عربة – إلى الحرب في صعدة ومصرعه هناك سنة 2005.
في السوق الذي يعنون الرواية، يحلل الجميع ما يحدث أمام البوابة الشرقية لجامعة صنعاء. ومن السوق، انضم تجار وباعة إلى ساحة التغيير التي انطلقت منها شرارة الثورة الشبابية السلمية، وملؤها أغاني ثورية للمطربين أيوب طارش وعلي الأنسي ومحمد الحارثي. وحين بدأت توسعة الخيام في الساحة اقتحمها بلاطجة النظام (الشبيحة) لإيقاف التوسع، وسقط الشهيد الأول في 22/2/2011. وفي اليوم التالي أعلنت القبائل تأييد الثورة، ومثلها أحزاب اللقاء المشترك، والمسيرات في سبع عشرة محافظة.
لكل فقرة من فصول الرواية تاريخها. فمنذ 24 شباط يشهد السوق نشاطاً مضاعفاً ويبرأ من الغش. ويبرق لمهدي حلمه بأن تكون له عربة يقلي فيها أكباد الدجاج ليبيعها في ساحة التغيير، ويعين أسرته التي هدها جنون أبيه، وموت أخته ابنة الثالثة عشرة، بالنزيف نتيجة تزويجها لضابط أربعيني. وأم مهدي ضد من تنعتهم بالمتمردين، ومثل معظم نساء حي مذبح تردد خطاب السلطة عن شباب الثورة. وفي المقابل: ثمة ثلاث سيدات يشترين كل يوم أكوام الدجاج، ويفك يونس شيفرة حديثهن، ليتبين أنهن يصنعن طعاماً لشباب الساحة.
على هذا الإيقاع يتطور وعي يونس ومهدي الذي ينقل الى زميله ما يشاهد في الساحة، قبل أن يجتذبه إليها، حيث تتوزع الخيام بين الإعلاميين والأكاديميين وأحرار التغيير… وفي الساحة سيبهج يونس أن يرى لأول مرة نساء كثيرات بلا نقاب، ويستذكر انتزاعه من المدرسة إثر مصرع والده ليعمل في سوق علي محسن، يحدوه تحذير أمه من السوق: «غابة الوحوش».
من جمعة البداية في 4/3/2011 إلى جمعة الغضب إلى جمعة الكرامة 18/3/2011 – وبهذا الاسم والتاريخ كانت أيضاً في سوريا – تتوالى يوميات الثورة، وصولاً إلى مصرع شقيق مهدي في حمأة رمي المصلين بالرصاص في المسجد الذي تحول إلى مستشفى ميداني. وفي الجمعة التالية يغادر مهدي محل بيع الدجاج لكي يتفرغ لعمله في ساحة التغيير التي تتحول أيضاً إلى مطرح لتحصيل الرزق. ومن هذا المطرح أمام المنصّة يتقد مشهد النساء اللواتي يوزعن الورود، وبينهن من تخطب ومن تهتف، بينما ينضم اللواء علي محسن الأحمر إلى الثورة، وتطّرد الاستقالات من المؤسسات العسكرية والمدنية. يتعرّف مهدي إلى الفنانة التشكيلية صبحية، يكون للرواية منعطف مهم يظهر فيه أيضاً الشاب كمال ناجي الذي يحاضر مع آخرين في خيمة، بينما تجمع صبحية في خيمتها الأطفال الذين توزع عليهم أقلاماً وألواناً ليرسموا، وهي التي لها في صنعاء القديمة مرسم نشدت منه أن يتمرن الناس على التذوق، وأن يتعلّم الصغار الرسم. وبهذا كله تنادي رواية «سوق علي محسن» رواية الكوكباني السابقة «صنعائي»، لكأنّ الأخيرة تستأنف الأولى في جزء ثانٍ، يظهر فيه من عشقت صبحية (حميد) الذي تكشّف عن ذكورية طاغية، وكذلك عبده سعيد الذي يحيي زمن والد صبحية وفك الحصار الملكي عن صنعاء قبل عقود.
منذ جمعة الزحف (25/3/2011) يتزايد حضور الساردة، ومن حين إلى حين ترمي بملخصات سردية، سواء من أجل وصل الروايتين – الجزءين، أو من أجل تغطية الوقائع، بعدما توزع الناس بين من يدعو إلى الحفاظ على المكون الأول للثورة (الشباب) وعلى سلميتها وعدم عسكرتها، وبين من يرى باللواء الأحمر وفرقته قوة للثورة، وبين فئة صامتة ممن عادوا إلى المنازل، وإن يكن في العودة تسليم للشباب على طبق من ذهب إلى الأحزاب التي بدأت تلتف على الثورة، كما بدأ مذنبون يتطهرون من ماضيهم باللحاق بها. وهكذا، اختفى وهج المنصة، وظهر سجن في الساحة، وشكلت صبحية مع أخريات جماعة مدنية لمناهضة العنف داخل الساحة.
في جمعة الزحف تأكد الانقسام الشعبي في ميدان السبعين لأداء صلاة الجمعة. وتحاول الرواية أن تجعل من حضور صالح فيها، شخصية روائية، لكنه يظل «خبراً» من أخبار الثورة، بينما تتطور شخصيات أخرى بشتى أشكال الانخراط في الثورة. أم يونس تنسج العلم من الصوف كشال، وغيرها ينسج أساور أو قلائد، ويتولى الأطفال البيع بقيادة يونس ومهدي.
في فصل «أحلامها» الموقوف على صبحية، تأتي جمعة الانتصار للشعب (9 نيسان – إبريل 2011) حيث يتصدى ملتحٍ لصبحية: هذه الشخبطة حرام، في إشارة إلى رسومها. وفي هذا المنحى التراجعي يدرك مهدي ويونس أن أحلامهما لن تتحقق إلا بالمال، لذلك يبرّر مهدي الكذب مادام سيمكنه من أن يكون له محله لذبح الدجاج وبيعه. وبتناوله للقات مثل الرجال، تكتمل رجولته، ويصير مع ابنة الجيران حبيبة الثنائي العاشق الذي ينضم إلى صبحية وكمال، بعد حميد المعارض للثورة، بينما صبحية تصدعه: هذه فرصتك لتثبت حبك لي ولوالدك الشهيد. وسيدعوها كمال إلى الغداء في سوق الملح، فتسعدها مفاجأة درايته بصنعاء القديمة. وهنا تعود الرواية إلى سالفتها (صنعائي) لتمتح منها أو تتعكز عليها، بينما يتدفق كمال في صفحات طويلة بقصته منذ النشأة.
تستهوي عسكرة الثورة مهدي، فيعزم على الالتحاق بمعسكر اللواء الأحمر، لكنّ صبحية ضد العسكرة، وسوف تفلح بالميل بمهدي عنها مؤكدة أن سلمية الثورة هي سر نجاحها حتى الآن. وقد ظهرت في هذا السياق شخصية جديدة هي الصحافية بشرى التي ستصدح أن الثورة ليست ثورة نساء ورجال، ولا عملاً ذكورياً يحتكره الرجال، وذلك رداً على فتوى علي عبدالله صالح بتحريم الاختلاط في الجامعة. وسيلي ملخص لقصة بشرى التي تبارك «الحب الثوري» بين صبحية وكمال، بينما تتواصل الثورة ورجال الأمن يتنكرون بهيئة النساء المسربلات بالسواد، كي يقتحموا ساحة التغيير. وتنجح الأحزاب أيضاً في استقطاب قسم من الشباب «لمصالحها، وليس لمصالح الوطن». وفي هذه النهاية – الهزيمة، يصير لمهدي محله، ويؤسس كمال وصبحية وبشرى منظمة حقوقية، بينما يستشهد يونس في الجمعة (6 أيار- مايو) التي تظهر فيها توكل كرمان (النوبلية) في الساحة.
هكذا آل ربيع اليمن كما الربيع العربي إلى يباب وتــباب، وتبين أن الأنظمة ليست هشة، وصدق حلم يونس الحوتي بارتطام الصيصان الملونة بالجدار، وأيّ جدار!