كتابات خاصة

هينس.. والإمام المسحور!!

بلال الطيب

رغم المسحة الملائكية التي أضفاها مؤرخو الزيدية على أئمتهم، ثمة مثالب عمد البعض على إشهارها، خاصة أولئك الذين عاشوا فترات الصراع بين إمام وآخر، وهو المدخل الذي تسللت من خلاله لدراسة حقبة اتسمت بالغموض، ومن خلال هؤلاء، وبعد تطواف شاق بين السطور، حاولت جاهداً ترتيب تلك الأحداث، وإظهار خفاياها. رغم المسحة الملائكية التي أضفاها مؤرخو الزيدية على أئمتهم، ثمة مثالب عمد البعض على إشهارها، خاصة أولئك الذين عاشوا فترات الصراع بين إمام وآخر، وهو المدخل الذي تسللت من خلاله لدراسة حقبة اتسمت بالغموض، ومن خلال هؤلاء، وبعد تطواف شاق بين السطور، حاولت جاهداً ترتيب تلك الأحداث، وإظهار خفاياها.
تولى «المنصور» علي بن «المهدي» عبدالله الإمامة بعد وفاة أبيه «نوفمبر1835»، أتهم بإسرافه دون تدبير، وتساهله دون تفكير، وبمعاقرته الخمر، وحضوره مجالس اللهو، وضرب به وبسفاهته المثل، عارضه من صعدة «الناصر» حسين المؤيدي، لم يستمر الأخير طويلاً، توفى في حيدان، وقيل أنه مات مسموماً.
«المنصور» الذي اشتهر بـ «علي مقلى»؛ كان سيئ الحظ، حدثت عام قيامه مجاعة شديدة، أدت لتمرد الخاصة قبل العامة، وكان من جملة المتمردين عليه قاسم بن منصور، غادر صنعاء مُغاضباً، وأعلن من تعز نفسه إماماً، تلقب بـ «الهادي»، ولحق به خلق كثير، وعندما أدركوا قلة ما في يده، عادوا أدراجهم؛ وتركوه وحيداً.
لم تدم إمامة «المنصور» في جولتها الأولى سوى سنة وثلاثة أشهر، قام «الناصر» عبدالله بن الحسن، ذو الـ «26» ربيعاً بعزلة، بمساعدة جماعة من غلاة الزيدية، وحشد من العساكر الغاضبين، زج «الناصر» بسلفه بالسجن، ومعه عمه «محمد»، وعدد كبير من علماء السنة المُجددين، كما حاول نبش قبر «الشوكاني»، لإحراق رفاته، وتفنن في إذلال اليهود، كما هي عادة من سبقه من الأئمة الجاروديين.
«الناصر» الشاب المُتهور، والفقيه المُتعجرف، أسهب مؤرخو الزيدية المتعصبون بمدحه، فهو حدّ وصفهم نهض لإصلاح العباد، وتشريد أهل العناد، وإعادة سيرة الأئمة الصالحين، وبالمقابل نعت هؤلاء من سبقه بأقذع الصفات، اتهموهم بالتأثر بعلماء السنة، والانحراف عن نهج الإمامة.
واجه «الناصر» عدة تمردات، كان أشهرها تمرد «قبائل بكيل» المُحتلة لـ «اليمن الأسفل»، وفي ذلك قال «صاحب الحوليات»: «وبلغ وصول ذي محمد من اليمن، وقد جمعوا ما قدروا يحملوه من الدّراهم، والعسل، والسمن، والملابس»؛ حطوا في «صافية باذان»، ولما علموا بخروج العساكر، مالوا إلى الصلح، وعادوا أدراجهم، بعد أن تركوا بعض كبرائهم كرهائن.
في تلك الأثناء كانت قوات محمد علي باشا، بقيادة أخيه «إبراهيم»، رابضة في ميناء المخا، تستعد للانقضاض على اليمن، تقدمت إلى تعز «1838»، سلم لهم «الهادي» المدينة مقابل «10,000» ريال، وراتب شهري، وقيل أنه استنجد بهم، بعد أن علم بتحرك «الناصر» إليه، توجه إلى المخا، وفيها وتحت حماية الأتراك آثر الاستقرار.
كان «اليمن الأسفل» تحت أيدي «قبائل بكيل» أشبه بالدولة المُستقلة، وحين توالت تمرداتهم، يمم «الناصر» خطاه نحوهم، ومن يريم بادر بإرسال رسائله، يطلب قدومهم إليه، فلم يستجب منهم إلا القليل، فاضطر لإخضاعهم، بالقوة حيناً، وبالهبات والأموال حينا آخر، أستقر في مدينة إب عدة أسابيع، وحين دانت له، قرر استعادة تعز.
أرسل عساكره للقتال، واستبقى البعض منهم خوفاً من غدر القبائل، لتدور أولى المواجهات في «القصيبة»، خارج مدينة تعز، انتصرت فيها قواته، شنَّ الأتراك هجوماً مُضاداً، دحروا عساكره، وقتلوا الكثير، لتتم لهم بعد ذلك السيطرة التامة على «العدين»، بعد أن أعلن الشيخ سعيد بن أحمد، ولاءه لهم.
زالت بعد ذلك هيبة «الناصر»، وأعلنت «قبائل بكيل» كعادتها تمردها عليه، سخطاً من الهزائم، وانتقاماً لقتلاها، وعاودت استيلائها على الحصون العالية، والأراضي الخصبة، ثم حاصروه في مدينة إب «أغسطس1938»، وقتلوا عدداً من رجاله، وساوموه بالإفراج عن أقارب لهم، مقابل عودته إلى صنعاء سالماً.
وقع «الناصر» بين سندان الأتراك، وكماشة القبائل، ولخروجه من هذه المُعضلة، افرج عن الرهائن، وعاد إلى صنعاء مُنكسر القوة والخاطر، وقد لخص أحد معاصريه المشهد: «وعندما قرر الهروب ناكصاً إلى صنعاء، كان يوم خروجه يوماً عبوسا، فكل فرد من أصحابه أيقن بالهلاك، وما وصل إلى المخادر إلا بشق الأنفس، وكثرة الأثقال بقيت في إب، ورجع بخفي حنين، ونعق بينه وبين اليمن الأسفل غراب البين».
هم «الناصر» بقتل «المنصور»، وعمه «محمد»، إلا أنه تراجع في اللحظات الأخيرة، خوفاً من غضب العامة، ليسرف بعد ذلك في أذية موظفي دولته، بذرائع واهية، نقلها له أصدقاؤه المُتعصبون، كانوا حسب توصيف «صاحب الحوليات»: «تارة يعيبوا الحكام بأن هذا يعرف السُنة، وتارة بأن هذا يحب الصحابة»!!
أيقن حينها المؤرخ المجهول، الذي عاش تلك التفاصيل، بـ «إدبار دولة هذا الإمام»، مضيفاً: «واضطرب أمر ريمة ووصاب، وانقطع الرجاء والأمل من بلاد رداع»، أما «اليمن الأسفل»، فقد «نظم الترك أموره، وعمروا المدن والأسواق، وأمنت البلاد».
احتل «الانجليز» مدينة عدن «يناير1839»، فاضطر محمد علي باشا منتصف العام التالي لسحب قواته من اليمن، بعد أن حددت «معاهدة لندن» نفوذه وحكمه في ولاية مصر، سُلمت تهامة للشريف حسين بن حيدر «صاحب أبي عريش»، أما «اليمن الأسفل» فقد ظل مسكوناً بالفوضى، محكوماً بالفراغ.
كان لسيطرة «قبائل بكيل» على أجزاء واسعة من «اليمن الأسفل»، خلال الـ «35» عاماً الفائتة، أثره في تفشي حوادث النهب، وقطع الطرق، لتتشكل وسط تلك الظروف العصيبة، حركة صوفية بقيادة الفقيه سعيد بن ياسين، الذي أعلن نفسه إماماً للشرع، وابتدأ ثورته بإخراج تلك القبائل، وامتدت سلطاته لتشمل «اليمن الأسفل».
بسبب محاربته لهم، تمرد «الاسماعليون» على «الناصر»، قاموا بطرد عامله على حراز، وامتدت أيديهم لقتله في وادي ظهر «إبريل1840»، أخرج «القاسميون» محمد بن أحمد من السجن، ونصبوه إماماً، تلقب بـ «المتوكل» تيمناً بأبيه، ثم غيره إلى «الهادي»، اتهمه معاصروه بالجهل، وبأنه كان ألعوبة بيد عبده المسيحي «فيروز».
توجه «الهادي» لمحاربة الفقيه سعيد، انتصر عليه بفعل الخيانة، سيطر على «اليمن الأسفل»، فيما نجح عامله النقيب الماس بَلَسَه في إخضاع تعز، وهي سيطرة لم تدم طويلاً، انتهت باستدعاء العامل وحبسه؛ كان للشيخ الشرجبي بعد ذلك شبه سيطرة على معظم نواحيها، نجح الانجليز في استقطابه، وبمساعدته حولوا تجارة البن إلى ميناء عدن، وهي الطريقة التي أصابت ميناء المخا في مقتل. 
لم يعترض «الهادي» على وجود الإنجليز في عدن، بل طلب منهم المساعدة من أجل استعادة تهامة؛ وقد تواصل بالفعل عبر وسطاء محليين مع القبطان «هينس»، وأبلغه استعداده تسليمه «تعز، والمخا، والحجرية»؛ إن هو ساعده بالقضاء على «ابن حيدر»، أرسل عبده «فيروز» لذات الغرض، إلا أن «بني ظبيان» اعترضوا طريقه، ونهبوا هداياه، وساموه سوء العذاب.
برأ «صاحب الحوليات» الإمام من تهمة التواصل مع الانجليز، وحمل عبده مسؤولية ذلك، قائلاً: «حتى أن الكلب فيروز كاتب الفرنجي، وكان يهاديه بما جمعه من النفائس، وكان السفير الساعي بينهم إسماعيل الوعلاني»؛ كما اتهمه بالسيطرة على سيده بالسحر، حتى صار المُتحكم الرئيس بالدولة، وأن تواصله مع الانجليز لم يكن إلا لتمهيد وصولهم إلى صنعاء، في مؤامرة دبرها النصارى للقضاء على المسلمين!!.
وفي المقابل كشفت وثائق انجليزية أرخت لحوادث لتلك الفترة، أن «هينس» المشغول حينها بتثبيت دعائم سيطرته على عدن وضواحيها، لم يكن باستطاعته تقديم أي دعم حربي لـ «الهادي»، المُسيطر سيطرة شكلية على تعز، وإنما كان همه تشجيعه على غزو لحج؛ ليضمن سلامة عدن من القبائل المجاورة.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى