وهي عبارة حالفها التوفيق، لأن التعليم هو جسر عبور الأجيال إلى مستقبل واعد يعبّر عن آمال اللحظة الراهنة، والمؤسسات التعليمية ما هي إلا محاضن تنشئة اجتماعية تدمج الفرد في ثقافة المجتمع، وتكسبه منظومة القيم التي تتبناها بيئته، فلا نبالغ إن قلنا إن التعليم يشكّل هوية الأجيال.
ونظراً لأهمية التعليم، سعى الصهاينة منذ معاهدة كامب ديفيد إلى الضغط على مصر وغيرها من الدول العربية لتغيير المناهج التعليمية، فتلك المحاولات كانت سابقة على الموجة العاتية ضد المناهج التعليمية بعد أحداث 11 سبتمبر، بذريعة أنها تُكرّس للإرهاب.
ويكفي أن عملية تغيير المناهج وتعديل المقررات الدراسية غالباً ما كانت شرطاً للجهات الدولية المانحة (مثل صندوق النقد الدولي)، لإمضاء القروض والمساعدات المقدمة للدول العربية والإسلامية.
فارس أبوبارعة، أحد أقطاب الإعلام الحوثي في اليمن، عقّب على إعلان القيادة الحوثية تعيين يحيى بدر الدين الحوثي وزيراً للتعليم، في الحكومة المزعومة التي تسيطر على صنعاء بالتحالف مع علي عبدالله صالح، فقال: «أكيد أبو هريرة وابن تيمية والزنداني سيهربون من المناهج المدرسية، بعد إعلان السيد الحوثي وزيراً للتربية والتعليم».
العبارة التي جرت على لسان الشخصية البارزة في الإعلام الحوثي لا تُخفي الوجه الطائفي للجماعة الانقلابية، ونيَّتها للعبث في هوية اليمنيين، عن طريق صبْغ المناهج التعليمية بالنَّفَس الطائفي.
إذ وجّه يحيى الحوثي، شقيق الزعيم الانقلابي عبدالملك الحوثي، بإتلاف كتب التربية الإسلامية داخل المطابع، وتمت الاستعانة بمطابع مؤسسة الثورة لطباعة ما يزيد على 11 ألف كتيب، يحمل فكر المؤسس وشعارات الجماعة، بهدف توزيعها على مدارس صنعاء، باعتبارها دفعة أولى، بسرعة إنجاز لم تكن لتتناسب مع ضعف إمكانات المطابع، فالأولوية في الطباعة لكتب الحوثيين.
المناهج التي حافظت على النسيج الاجتماعي اليمني على مدى عقود ها هي تُستبدل الآن بمناهج حوثية طائفية تفرض فكراً خرافياً على المنهج الإسلامي الصحيح، وتغيّر الهوية الثقافية لليمنيين لمصلحة أقلية تنفذ أجندة إيرانية.
ومما يُعد من الطرائف، أن وزير التعليم المزعوم لا يحمل أي مؤهل علمي يُرشحه لتولي هذا المنصب الحيوي، كل مؤهلاته هي دراسته للمذهب الزيدي والاثني عشري وحصوله على إجازة في ذلك، وارتباطه بولاية الفقيه، إضافة إلى تعصُّبه المقيت واعتباره المناهج التربوية والتعليمية في اليمن (مناهج تكفيرية)!
جماعة الحوثي الانقلابية تدرك العلاقة بين التعليم والهوية، لذلك تقوم حالياً بأكبر عملية تشييع للأجيال المقبلة، نظراً لأن هذه الجماعة لا تمتلك الحاضنة الشعبية الكافية لفرض سيطرتها على اليمن، فجعلت من تغيير هوية الأجيال الناشئة قضية مصيرية، لأنها السبيل الأوحد لصهر اليمنيين مذهبياً في بوتقة الآيديولوجية الحوثية الشيعية.
إدراك الحوثيين لذلك يفسر تمسكهم بوزارات التربية والتعليم، والأوقاف، والإعلام، والأوقاف والإرشاد الديني، في مقابل التنازل لجناح «علي صالح» عن وزارات سيادية مهمة في الحكومة المشتركة المزعومة.
إننا إذ نتحدث عن خطر التشيع في اليمن، فنعني به على وجه الحقيقة نشر الإمامية الاثني عشرية، التي تمثل بوابة العبور الإيراني إلى كل الدول الإسلامية والعربية.
فالحوثيون – كما بات واضحاً – تحولوا من دائرة الزيدية الجارودية إلى التشيع الإيراني – إن جاز لنا التعبير -، ذلك التحول بدأ بعد النزاع الذي نشب بين بدر الدين الحوثي وبين علماء الزيدية على خلفية تأثره بالمذهب الجعفري، ومن ثم وجّه بوصلته إلى إيران وأقام فيها سنوات عدة، كانت كفيلة بأن يتشبّع بالمنهج السائد في إيران، ولما عاد إلى اليمن حرص على إرسال الشبان الحوثيين في صعدة إلى حوْزات «قم».
وانتقل ذلك التحول إلى ولده حسين الحوثي، والذي تأثر بالثورة الخمينية حتى النخاع، وسار على درب أبيه في التوجه إلى طهران، وخضع لتدريبات ميليشيا حزب الله اللبناني، وارتبط بالحرس الثوري الإيراني بعلاقات قوية، إلى أن آلت القيادة إلى عبدالملك الحوثي، والذي شهد عصر ولايته على الجماعة ارتباطاً شديد المتانة بإيران التي أبرزت تعاطفها معه، وقامت وسائل إعلامها باللعب على وتر الطائفية، وادّعت مظلومية الحوثيين والشيعة عموماً في اليمن، ثم عملت على دعم الحوثي في ثورة 2011 ليجد لجماعته موطئ قدم في الحياة السياسية لما بعد الثورة.
جماعة الحوثي باعتبارها الذراع الإيراني في اليمن، فإنها تحذو حذو طهران في محاولة تشكيل شخصية الناشئة بما يناسب مع الأدوار المرسومة لهم مستقبلاً، بما يعني تحويل المدارس اليمنية إلى مصانع لها خط إنتاج ممتد من المسلحين الطائفيين، أو ميليشيات حشد طائفية تكون نواة لحرس ثوري إيراني في اليمن.
اهتمام الحوثيين بتغيير هوية الشعب اليمني عن طريق التعليم ليس وليد اللحظة الراهنة. فمنذ أواخر القرن الماضي تغلغل الحوثيون بقوة في أجهزة الدولة والمرافق الحكومية المدنية والعسكرية، وكان التركيز على المرافق التعليمية في صعدة وصنعاء والجوف وعمران، خصوصاً أثناء حركة الدمج بين المدارس الحكومية والمعاهد العلمية التي كان يشرف عليها الإصلاح اليمني، كما يرى الباحث عادل الأحمدي في كتابه «الزهر والحجر… التمرد الشيعي في اليمن».
لكن المحاولات الكبرى للسيطرة الحوثية على المناهج التعليمية باليمن حدثت بعد سيطرتهم على صعدة عام 2011، إذ استبدلوا المناهج بكرّاسات (ملازم) حسين الحوثي التي تمثل أدبياته الدينية والفكرية، واستبدلوا النشيد الوطني بشعار الصرخة المستلهم أصلاً من شعارات الثورة الخمينية.
على غرار التعليم في مدارس الاحتلال الإسرائيلي، قام الحوثيون بعسكرة التعليم، بفرض مصطلحات وشعارات الموت والسلاح، في خطوة لو تمت في ديارنا لاعتبرها الكثيرون انتهاكاً للطفولة، وجرائم تستوجب المحاكمة عليها دولياً.
سطْو الحوثيين على المناهج التعليمية هدفه طائفي بامتياز، فلا يُعقل أن الجماعة الإرهابية التي تفجر المدارس والجامعات، هي التي تسعى لنشر العلم والثقافة بين أبناء المجتمع اليمني، بل هو تفخيخ واضح للمناهج وصبغها بالطائفية.
عندما طرحتُ للقراء على «تويتر» فكرة الحديث عن الاستهداف الحوثي للهوية اليمنية عن طريق تلغيم المناهج، كانت ردود الأفعال تنم عن اطمئنان زائد حيال هذا الإجراء، وذهب الكثيرون إلى أنه ليس هناك داعٍ للقلق، اعتماداً على رفض اليمنيين لهذا الفكر الدخيل الذي يمثل أقلية، وبالنظر من ناحية أخرى إلى أن هذه الحكومة الانقلابية المزعومة لن يكتب لها البقاء في ظل الصراع القائم، خصوصاً وأن الحوثيين يسيطرون على مساحة صغيرة تقل عن الثلث.
لكن هذه النظرة المُفرطة في التفاؤل لا تنفي حقيقة قابلية الشعوب لتغيير هويتها في ظل توافر عوامل معينة، وهو ما ثبت تاريخياً. فالهند كانت دولة مسلمة يحكمها المغول، وإيران كانت دولة سنية قبل سيطرة الصفويين، فالأمر جدُّ مقلق، لاسيما وأن الحوثيين يسيطرون على أماكن ذات كثافة سكانية عالية، ولديهم انفتاح هائل على الخبرات الإيرانية في مجال تشييع المجتمعات.
التعويل على سرعة حسم المعارك من جانب التحالف العربي الذي تقوده السعودية غير واقعي، في ظل الدعم الإيراني القوي للحوثيين، وفي ظل تخاذل بعض الدول العربية، وهو من شأنه إطالة أمد الصراع، ما يُخشى معه إتاحة الفرصة للحوثيين لمزيد من التمدد وكسب الأرض.
لكن دول التحالف والحكومة الشرعية باليمن ينبغي أن تكثف تحركاتها التوعوية للشعب اليمني، وتوجيه آلتها الإعلامية لتحذير الجماهير من خطر النفوذ الإيراني – المتمثل في الحوثيين – على هويتهم وخطورته على بنية المجتمع اليمني، عن طريق الحملات الإعلامية والوفود الدعوية، قبل أن يتحول اليمن إلى محافظة إيرانية أخرى.
نقلا عن الحياة اللندنية