كان العبسي قريبًا من الكل، مؤسفة هذه الـ “كان” بقدر حيرة هذا الـ “كل”، ما يزال محمد بيننا، الروح عند الله والجسد في الثلاجة. الكلمات ترتعش من البرد، أحس برعدة البرد تسري في دمي، العبسي وفي ذروة البرد ممتد في الثلاجة بلا حراك. فجأة يسكت قلب المتكلم. يتوقف قلب محمد عبده العبسي.
جلبة ضاجة أعقبت الموت المفاجئ، سدم أسيف بعد همود الحقيقة. أن ترحل في زمن الحوثي، فلن يمنحك أحد السبب الذي أودى بروحك لمغادرة صالة انتظار الركاب!
قالوا إنك حفظت كلام الله؛ قلبك مطمئن إذن..
قالوا إنك أكلت؛ الطعام لا يميت.
قالوا بأنك دخنت حتى شكلت جوًا ضبابيًا في سماء الرئة؛ السجارة ليست رصاصة مدببة تستقر في القلب.
قالوا إنك كتبت وإنك لم تتوقف برهة لالتقاط أنفاسك اللاهثة، لهثت بعد الحقيقة فكان الرحيل.
غادر العبسي، صحفي شاب مجمل الحقائق رابضة في عقله. موت مريب، صديقنا العصامي مازال في الثلاجة، اشتعل العالم الافتراضي ليومين مطالبًا بمعرفة الحقيقة: الصحفيون والأدباء، الناشطون والخاملون، الكسالى والمستيقظون باكرًا، المحترفون والهواة، الجميع يمارس حقه في الخربشة والتخمين على الحائط الافتراضي، لم يعد هناك صحيفة تبحث عن حقيقة الرحيل، رحيل محمد عبده العبسي في مكان ما من العالم.
يومان من المواويل، يومان من طرح الاحتمالات، ثم الانصراف للبحث عن الجديد. المآسي فاضحة: هل صرنا مجرد انفعالات مؤقتة على فيس بوك؟
حيوات مبللة بردات فعل لا تدوم كثيرًا. العواطف تشبه الحليب المُعَلَّب، تنتهي صلاحياته بعد ساعات من الفتح.
كان العبسي قريبًا من الكل، مؤسفة هذه الـ “كان” بقدر حيرة هذا الـ “كل”، ما يزال محمد بيننا، الروح عند الله والجسد في الثلاجة. الكلمات ترتعش من البرد، أحس برعدة البرد تسري في دمي، العبسي وفي ذروة البرد ممتد في الثلاجة بلا حراك.
الحقيقة المغيبة تحتاج إلى تشريح والمشرحة بيد المتهم.
ونحن غارقون في صمت وخيم، لا نعرف أي الطريق أقرب: من الثلاجة إلى المقبرة أم من الثلاجة إلى المشرحة؟ العبسي محترف في صناعة المفارقات، لن ينسى تفاصيل الطريق: الحُفر التي ترجُّ النعش، البنايات العشوائية وتورط بلدية المخلوع، المقاول الذي تقاسم أرباح المناقصة مع جهة ما. قد ترافقه الحقيقة إلى رمسه وسيكون الشاب الذي تتيم بها من المهد إلى اللحد!
رواد العالم الافتراضي تركوا كل شيء على عاتق أهل العبسي المكلومين، حتى أصدقاؤه انصرفوا من بلاط المستشفى ولم يجرؤ أحد لاستشفاف سبب الرحيل ولا لإعلان استمرارية الحزن على هذا الفقيد الكبير، إنه الخوف من زيف التهم.
العظماء يحدثون ضجة بعد رحيلهم، رحل رامبو وعمره ينتصف الثلاثينات، حياة حافلة بالعذابات، تجربة ناجحة في التجارة، كانت شقيقته تحدثه عن الإيمان في المستشفى، قال لأخته كلمتين بالعربية تعلمها في عدن: الله كريم. ثم لفظ أنفاسه.
وترك المهتمين يبحثون عن شعره، وعن أعماله الخالدة.
وفي مثل عمر رامبو، يرحل العبسي بغموض بلا علة، معذباً بالبلاد، كان مؤمنًا، سيبحث الجميع عن تحقيقاته التي نشرها، عن رحيله التراجيدي وعن هذا الهمود المتجمد.
الله كريم يا عبسي.. الله كريم.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.