“مقامات بديع الزمان الهمذاني”: إشارات تراثية للحاضر
تعتبر “مقامات بديع الزمان الهمذاني” علامة من علامات المسرح المغربي المعاصر، يمن مونيتور/الرباط/العربي الجديد
تعتبر “مقامات بديع الزمان الهمذاني” علامة من علامات المسرح المغربي المعاصر، وهي التي أعاد صياغتها مسرحياً الفنان المغربي الراحل الطيب الصديقي (1938-2016) ضمن مجموعة أعمال أخرى تنهل من التراث مثل “ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب”، و”الإمتاع والمؤانسة”، و”الفيل والسراويل”، و”قفطان الحب المرصّع بالهوى”، “وخلقنا لنتفاهم”، و” الحراز” وغيرها.
كان مشروع الصديقي هو أن يزاوج بين المسرح العالمي والتراث الشعبي المغربي من جهة، وأن يدمج أشكالاً ثقافية شعبية مغربية كالحلقة والبساط في الفن المسرحي بمعاييره المعاصرة من أخرى.
شهد “مسرح محمد الخامس” في الرباط مؤخراً أولى عروض مسرحية “مقامات بديع الزمان الهمذاني” من إخراج محمد زهير وسينوغرافيا عثمان خلوفي، والتي تعود إلى تصوّر الصديقي دون أن تكرّره. المسرحية المعروفة محليّاً وعربياً استقطبت رغم ذلك جمهوراً كثيفاً.
اختيار زهير العودة إلى “مقامات بديع الزمان الهمذاني” يبدو تحدّياً فنياً وجمالياً، نجح في كسبه إلى حد كبير، فقد قدّم – خلال ساعة ونصف – عرضاً حافلاً بالفرجة والراهنية، من خلال لوحات نجحت في الانتقال من العربية الفصحى، التي ميّزت مسرحية الطيب الصديقي، إلى العامية (العربية) المغربية بسلاسة عضوية، كما تناغمت فنون البساط والحلقة والغناء الشعبي مع مواقف ساخرة وفكاهية عربية قديمة مع شخصيات أبو الفتح الإسكندري وعيسى بن هشام وغيرهما، وهي شخصيات جسّدها كلٌ من مصطفى الهواري وعادل أبا تراب وزهير بنجدي ونعمان جمال وجليلة تلمسني وجميلة الهوني وإيمان الرغاي.
تطرح علينا الكثير من المقامات المختارة للمسرحية أسئلة الراهن، فالمقامة الخمرية مثلاً تسلّط الضوء على إحدى المفارقات التي يعيشها المجتمع في ظلّ قانون يبيح الخمر “لغير المسلمين” فقط. وتعرّج مقامات أخرى على آفات التسوّل والاحتيال وسوء استغلال السلطة دون أن تسقط في المباشرتية أو الوعظية. كل ذلك ضمن قالب حديث ومشوّق، جعل من “المقامات” التي كتبت منذ قرون مثل المقامة الأصفهانية والساسانية والمجاعية ذات قدرة على أن تضع الواقع المغربي الحالي على المحك.
دون تكلّف أو تغريب، بدا أن ثمة انتقالاً لغوياً سلساً من عمل بديع الزمان الهمذاني إلى الطيب الصديقي وصولاً إلى محمد زهير رغم الاختلافات الجوهرية بين النصوص الثلاثة. ولعل هذا العمل المسرحي يجيب بشكل مباشر على القائلين بأن العامية المغربية مقطوعة عن العربية الفصحى.
تجيب المسرحية، أيضاً، على سؤال يتكرّر منذ عدّة سنوات في المغرب: هل يوجد اليوم مسرح غير المسرح التجاري؟ وكأنها تردّ بالإيجاب. ففي المغرب، تأسّس في العقد السابق مسرح رائد، ما على المسرحيين المغاربة اليوم سوى العودة إلى ريبرتواره ومن ثمّ استئناف مشروعه الفنّي.