** في صغرنا كنا نتداول طرفةً تُعزى إلى «تشرشل» رئيس وزراء بريطانيا الجهير حين وقف على شاهد قبرٍ كُتب عليه: «هنا يرقد السياسي الصادق والرجل العظيم ** في صغرنا كنا نتداول طرفةً تُعزى إلى «تشرشل» رئيس وزراء بريطانيا الجهير حين وقف على شاهد قبرٍ كُتب عليه: «هنا يرقد السياسي الصادق والرجل العظيم»؛ فعلّق: «لأول مرة أرى رجلين مدفونين في قبر واحد»، ووعينا في أذهاننا المتطلعة ما تحفل به السياسة من تبدلاتٍ وتحولاتٍ قيل لنا عندما كبرنا إنها «براغماتية» لا محيد عنها، وفصَّلوا أمرها من منطلق ألا عداوات مستمرة ولا صداقات دائمة، بل مصالح متغيّرة، وكذا تلوّن الكذب والتكاذب بألوانٍ جميلة كي نصدق ونصفق أونبرر ونستكين.
** ليس مهمًا ما كان ولا حتى ما يكون؛ فقد تجاوزنا الطُّرف والنظريات والمشاهدات وعشنا الهزيمة تتزيَّا بأقواس النصر، والإرهاب بلافتة المقاومة، والتهريج تحت عنوان التحليل، والقاتل على كرسي القائد، بل صارت الإبادة تحريرًا والغازي محررًا، غير أن الوعي الشعبي تجاوز ما كان يُسطر أو يُصدَّر فامتزج الخطاب الرسمي – الإعلامي بالإدراك الشعبي – النخبوي، وانصرف الناس إلى رؤاهم وإلى رؤى من يثقون بهم من ذوي الوعي المكافئِ أو المتماهي مع مدركاتهم، ولم يعد السياسيُّ ولا «المحللُ» ذوي شأنٍ في الإقناع وإن امتدت أدوارهما في منحنيات القرار؛ فنجا العقل من إسارهم وبقيت الأرض تحت حصارهم.
**يتلمعون ويبقى لونهم الحقيقي هو الأسود وأحبار «محلليهم» سوداء، ولم يعد للطفل أن يرتع وللصبي أن يتطلع وللشاب أن يُنجز وللكهل أن يرتجز فقد اغتال السياسيون أفراحهم وصار غدُهم مرتهنًا برضا كسرى وقيصر وذيولهم.
**اليوم سقطت كل الأقنعة وآن أن نسميَ الأشياء بأسمائها دون مداورة أو مواربة؛ فسياسيو ومثقفو الضفاف الأُخر» المذهبية والحزبية» لم يتوارَوا حين استدارت البوصلة ولم يتورعوا عن الالتفات بزاويةٍ مقلوبةٍ، وبدت لنا حكايات التأريخ تخلعُ عباءة من يُرخصها وتبقي على عباءة خصومهم لتوهمهم أنهم سيرخصونها مثله، وما هم غيرُ انتفاعيين متربصين يُبهجهم أن تكون عاريًا ليكتسي أولياؤُهم.
** لسنا غائبين لكننا مُغيبون، وقبل عقود صدر كتاب: (وجاء دور المجوس) فهزئ منه فئامٌ ظنوه وهمًا فبدا أكثر فطنةً منهم، وحين قامت ثورة «خميني» تبرع بعضنُا لمساندتها وما كانوا مدركين أعماقها، واليوم انتقضت نظريات السياسة والتحليل فخسرنا ماحقُّنا أن نكسبه وظفرنا بما تمنينا لو فقدناه.
** لا نحتاج إلى استعادة التأريخ المأساوي الذي قلَّم أظفار الطموح العربي لتداخلات الأدلجة والسياسة فغاب المشروعُ وتاه المشرِّع، وانتقلنا من أحزاب مدنية محدودةٍ تحكم أو تحلم دون أن تتخطَّى الحراك السلمي إلى العسكر المتلوثين بالدماء، وأفرزوا – بتخطيطهم أو تخبيطهم – العصابات المنشقة الطامعة في السلطة أو المنتمية إلى ولاءات خارجية فاختلطت الرؤى، وسئم الناس مَن ساس ومَن تسيَّس ومن تأدلج ومن تبرمج، وأيقنت الجماهير العربية أن الأعلون صوتًا ليسوا الأطهر صيتا.
**الشام لم يعِه اليمن.
نقلا عن الجزيرة السعودية