عراطيط تعز: رفض الحياة بين مقبرتين
تختزل تعز مفارقةً توجز تاريخ اليمن الحديث، فالمدينة التي انطلقت منها ثورة 26 سبتمبر يمن مونيتور/تعز/ العربي الجديد
تختزل تعز مفارقةً توجز تاريخ اليمن الحديث، فالمدينة التي انطلقت منها ثورة 26 سبتمبر عام 1962 ضد استبداد الإمام البدر، لم تلق إبّان العهد الجديد سوى المزيد من التهميش والإقصاء دفع أهلها إلى تصدّر انتفاضة عام 2011، وهو ما استفزّ الرئيس المخلوع حينها ووصفهم بـ”الصعاليك” -أي بلا أخلاق باللهجة اليمنية- فردّوا عليه بتأسيس مقاومة مسلّحة باسم “لواء الصعاليك”.
لا ينفصل الفعل السياسي عن تمرّد قاده مثقفون قبل ذلك بسنوات، حين أعلن مجموعة من الكتّاب والفنانين في تعز الحداد على “اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين” في عام 2007، احتجاجاً على عدم نشره أعمالاً لهم على خلفية مواقفهم السياسية من النظام، وتأسيسهم جماعة “العراطيط الثقافية”.
يقول القاص أحمد شوقي أحمد، أحد مؤسسي الجماعة، في حديثه لـ “العربي الجديد” إن “العراطيط وقفوا في وجه المؤسسة البيروقراطية منذ لحظة وقوفهم بجوار مقبرة الأجينات مقابل مقرّ “الاتحاد” في وسط المدينة وقرؤوا “الفاتحة” عن روحه، وأصدروا بيانهم الشهير “تعز ترفض الحياة بين مقبرتين” في إشارة إلى المقبرة التي تقابل الاتحاد”.
يضيف أحمد أن “اللقب الذي أطلقته الجماعة على نفسها استوحوه من مجموعة قصصية أصدرها الكاتب عز الدين العامري بعنوان “العرطوط”، ومفردة “العراطيط” في الدارجة التعزية تعني العراة، وكأنهم أرادوا تسمية تدلّ على أنهم عراة من الزيف الذي بات يغلف المجتمع اليمني في ظلّ نظام أبوي مستبدّ مارس الكذب والنفاق والمحسوبيات واستغلال المواطنين وانتهاك حقوقهم والاتجار بالقضايا الكبرى لإخفاء فساده وقمعه”.
نظّمت “العراطيط”، بحسب أحمد، فعالياتها الأدبية في المطاعم وفوق الأرصفة وعلى أسطح المنازل، وقدّموا أفكاراً جديدة لإبداعاتهم، إذ عمد الشاعر والفنّان التشكيلي ريان الشيباني إلى إقامة معرضه في منزل صديق له ناشراً لوحاته على حبل الغسيل، مبدياً سخرية مُرّة من الواقع الذي وصلت إليه حال الثقافة في اليمن، ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحد، بل امتدّ إلى إقامة أمسيات في الظلام احتجاجاً على الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي في المدينة، وكانوا يوزّعون شموعاً على الحاضرين.
مارس العراطيط أنشطتهم في طابع غير مألوف، في محاولة منهم للتذكير بتاريخ مدينتهم، التي تعدّ ثالث مدينة من حيث السكّان والمساحة في اليمن بعد صنعاء وعدن، وشهدت حراكاً ثقافياً منذ ستينيات القرن الماضي هو الأبرز في البلاد، كما تسمّى “شام اليمن” لامتداد مساحاتها الخضراء وأشجارها، فكانت مصيفاً ومزاراً للمثقّفين العرب.
ولا تزال ذاكرة تعز تحتفظ بزيارة الروائي الراحل نجيب محفوظ إليها عام 1963، والتي وصفها في كتابه “تحت المظلة” بقوله: “الحقول خضراء، المراعي خضراء، الطرقات مجلجلة بالأشجار، الحدائق أكثر من البيوت عدا سلسلة من الجبال كالأنغام المتموجة مكسوة بالزمرد مزركشة بالأزهار، الجو لطيف يريق السحر معبقاً بشذا الورود والثمار”.
من جهته، يلفت الناقد العراقي حاتم الصكر، الذي أقام في اليمن في فترة سابقة، إلى أن أصل تسمية تعز القديمة يعود إلى “تمّوز”، إله الخصب عند العرب القدامى، ويقتبس من رسالة لبدر شاكر السياب: “الاسم انتقلَ إلى البلدانِ العربيّةِ انتقالاً لفظيّاً ًبتغييرٍ طفيفٍ، وقد وصلَ اليمنَ، فـ”تعز” هي مختصر “تاعوز” وتاعوز هو تموز”.
بالعودة إلى صعاليك المدينة، الذين يقاتلون اليوم في المقاومة الشعبية، دفاعاً عن ثقافتهم وذاكرتهم وتاريخهم، يقول الناشط محمد السامعي في حديثه لـ”العربي الجديد” إن “شباب تعز لا يقاتلون بقايا الاستبداد فقط، إنما يخترقون المحظورات في مجتمع لا يزال تقليدياً ومحافظاً، لذلك يصرّون على تسمية مقاوميهم بـ”الصعاليك”، سواء أحالت إلى الشعراء الذين يغزون الأغنياء لمساعدة الفقراء، أو بالمعنى الشائع والمتداول الذي نعتهم به النظام السابق لأنهم خرجوا عليه”.