ترددت كثيراً في الكتابة عن محمد العبسي وانا المكبود الذي يهز رأسه ولا يستطيع النشيج في هذا الخريف البارد والكئيب اسمع صوت محمد القاسم الحزين طرف الغرفة وهو يقول الحياة لم تعد صالحة لنا ترددت كثيراً في الكتابة عن محمد العبسي وانا المكبود الذي يهز رأسه ولا يستطيع النشيج في هذا الخريف البارد والكئيب اسمع صوت محمد القاسم الحزين طرف الغرفة وهو يقول الحياة لم تعد صالحة لنا.
لاتروق لي كثيراً كتابة المراثي لكن كيف لا ارثي الصديق المقرب إلى القلب بعد ان تحسست اطرافي الباردة ركضت وحاولت الخروج ناحية البلكونة الباردة في ليلة تسري فيها الوحشة كما لو انها ليلة كآبة صنعاء بلا محمد.
كل الخواطر التي كانت في بالي قبل حديث الوفاة تلاشت من بينها الكتابة عن خريف إسطنبول كواحد من مجموعة شباب يمنيين يتنقلوا بين شوارع واحياء مدينة ضخمة مترامية الأطراف والسواحل يتبدل طقسها بشكل عجيب وغريب كما تتبدل طبقات “المكياج”!
أنا دونت في دفتر صغير الكثير من اندهاشاتي الحسية والروحية والذهنية لكن أمنية مؤجلة خاب سعيي فيها إلى اللحظة، هي أن أقف أمام الروائي العبقري اروهان باموق، ابن هذه المدينة وهو الحائز على نوبل في الآداب في رواية اسمي احمر التي اعتبرها متحف محفوظ بين دفتي كتاب تتحدث عن سحر النقوش وكيف يعيد الفن خلق الأرواح على هيئة نقوش بصرية قاتنة تفعل فعلتها وهو الذي حدثني عنه محمد العبسي طويلاً وشجعني مرات كثيرة على الاهتمام باسلوبه في السرد.
كل هذا الشغف تبدد دفعة واحدة بمجرد أن تذكرت انه لا يمكن أرى محمد بعد الآن وهو من أوائل الأصدقاء لي في الوسط الصحفي فعلى مقربة من كشك النعماني في الدائري التقيت بمحمد لأول مرة حدثته مباشرة عن إعجابي الشديد بتقريره الثقافي عن حريق الكتب في مجلة صيف.
صافحني بحرارة وقال أجد الآن ثمرة ما تعبت على كتابته طلب مني أن اشرب شاهي معه بالبوفية ودار حديث ودي طويل وانصرفنا على أمل أن نلتقي في اليوم الثاني في ساحة كلية الإعلام.
وهناك التقينا في الصباح وكانت مخاضات الثورة العربية قد بدأت في تونس كنت من المبشرين بها ومتحمس لها وحينما انطلقت اول شرارة طلابية من جامعة صنعاء في 15 يناير بعد سقوط ديكتاتور في تونس بن علي حينها تعرضت للاختطاف مع رداد وعيدروس النقيب وكان محمد ومراد سبيع قد التقطوا بكاميرا الهاتف أول حالة اختطاف أمام السفارة التونسية وعرض لي من تلفونه الخبر في موقع مأرب برس وهو يبتسم ويقول هذه الثورة ستنح ولو بعد حين..
بدأت علاقتي بمحمد تتعمق أكثر وأصبحت صداقة حميمية جمعتنا تفاصيل كثيرة بينها جلسات مقيل في صحيفة الأهالي كلما كنت ادخل من الباب يفسح لي مكان اجلس إلى جانبه ما بينه وبين محمد الجرادي او ما بينه وبين سلمان الحميدي..
في أيام الثورة وفي مقر التحالف الوطني لمناهضة صفقة الغاز كان مكتب محمد ملاذ لي في ليالي الثورة نسمر ونتناقش فكرياً وثقافيا ونضحك حتى مطلع الفجر وفي مرات عديدة نخرج في صباحات صنعاء لتناول الصبوح وترديد النكت وتحضر ضحكة محمد المرتفعة ويمسح بأصابعه العرق من على جبينه كلما ضحك أكثر..
انطفأ قلب محمد ونام وتحول الفيس هذه الليلة إلى عزاء افتراضي يرثي فراغ محمد الكبير وبصماته المتفردة عن ما سواها كون محمد اشتغل على ملفات مهمة وحساسة وتناولها بشكل مغاير عن المألوف كملف صفقة العاز المسال مثلاً الذي حولها الى قضية رأي عام واستطاع بالأرقام ان يكشف الخسارة الاقتصادية التي تمت بحق بلد فقير ومعذب مثل اليمن..
تفنن محمد في التدوين الالكتروني ولديه مدونته المتميزة التي تم الحديث عنها في أكثر من مجلة وصحيفة عربية كونها مثلت مرجعية جيدة للعديد من الأحداث..
محمد الشاعر الجميل في ديوانه” وحيداً كالقطرة جميعاً كالأمطار” هو الجانب الخفي في شخصيته وهو الذي يجيد بشكل لافت وآسر كتابة المراثي منها مرثاه لامه وأخوه وحديثه عن المقبرة التي تحوي قبر أمه في شارع العدل..
محمد اشتغل على ملفات كثيرة منها فساد وزارة الدفاع وصفقة السيارات ومحمد بجيد الالتقاطات بحس شاعري مذهل ويجيد الإصغاء بشكل لافت لدرجة انه في جلسة مقيل بيني وبينه في مكتبه الخاص.
قال لي اريد أن تحدثني لساعة كاملة بشكل مرتب وموضوعي في إجابة على سؤال واحد:
هل ثورة 11 فبراير تستطيع تصحيح اختلالات ثورتين ووحدة؟
واكتشفت حينها قدرته الفائقة على الإصغاء ومشاكسته في طرح مداخلات أثناء الحديث.
آخر لقاء مباشر بيني وبين محمد صدفة جمعتنا في مطار صنعاء وهو في طريقة إلى تونس مع دكتور من بيت أبو اصبع لا أتذكر اسمه، الأول حينها سألته سؤال إلى أين يامحمد قال إلى تونس.
والآن أضع ذات السؤال إلى أين يامحمد؟! غير أن سؤالي هذه المرة سيظل مفتوحاً إلى الأبد.
————————–
*من حائط الكاتب على (فيسبوك).