لازالت الأسئلة تتوالى في ذهني على أولئك الذين اعتبروا الحديث وحيا من الله، وهي تساؤلات تجعل قولهم ذلك في تناقض وعدم اتساق، فإذا قلنا إنه وحيا فلماذا تقولون: (قال رسول الله) ولا تقولون: (قال الله) مباشرة كما في آيات القرآن؟ لازالت الأسئلة تتوالى في ذهني على أولئك الذين اعتبروا الحديث وحيا من الله، وهي تساؤلات تجعل قولهم ذلك في تناقض وعدم اتساق، فإذا قلنا إنه وحيا فلماذا تقولون: (قال رسول الله) ولا تقولون: (قال الله) مباشرة كما في آيات القرآن؟
لم تكن إجابتهم في ذلك كافية، إذ قالوا بأن ذلك وحي جاء معناه من الله ولفظه من الرسول، بينما القرآن لفظه ومعناه من الله لذلك يقولون في القرآن (قال الله)، وأما الحديث فيكتفون بـ(قال رسول الله)، قلت: ولكنكم بهذا التعليل وقعتم في تناقض آخر، وهو أنكم تقولون في الأحاديث القدسية (قال الله)، برغم أنكم تقولون أنها ليست قرآنا بل حديثا، وهذا يعني أن معناها من الله ولفظها من الرسول!! فكيف تجيبون على ذلك، هل ستضمونها ضمن القرآن فنقرأها في صلاتنا أم ستضمونها في الحديث وتحذفون (قال الله)؟ كلا الأمرين لم يعملاهما!
بعد تأمل فيما سموه الأحاديث القدسية وجدت أنها تكثر خارج الكتب الأكثر استيثاقا عندهم، بينما وجدتها قليلة جدا في الكتب التي تحرت الدقة كالبخاري مثلا، وأشهر حديث قدسي من حيث السند هو ذلك الحديث المشهور “ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به..الخ” وقد قيل أن في سنده ومتنه غرابه!
يقول الشيخ الغزالي في كتابة السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث: “وأمامي الآن تفسير المنار لقوله تعالى: “ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ” يقول الشيخ رشيد: لم نر في الأحاديث الصحيحة ما هو أقرب إلى كلام الصوفية منه إلى كلام الله عز وجل إلا حديث ” من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب.. “!!. وقد انفرد به البخاري وفى سنده كما في متنه غرابة! قال الحافظ ابن رجب: هذا الحديث تفرد البخاري بإخراجه دون بقية أصحاب الكتب. إلى أن قال: وهو من غرائب الصحيح، تفرد به ابن كرامة عن خالد بن مخلد، وليس في مسند أحمد، مع أن خالدا هذا تكلم فيه الإمام أحمد وغيره وقالوا: له مناكير! ثم قال: وقد روى من وجوه أخرى لا تخلو كلها من مقال! وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب اختلاف أئمة الجرح والتعديل في خالد، ومنه تصريح جماعة بروايته للمناكير وفي الميزان للذهبي: يكتب حديثه ولا يحتج به! الخ” انتهى..
أما رأيي فيما يسمونه أحاديث قدسية فهو أنها أحاديث مدرجة استحسنها الناس لجمال صيغتها، فهي من أقوال المتصوفة الذين كانوا يبحثون عن داعم لطريقتهم كما كانت تعمل المذاهب الأخرى في صراعها، فإن أقوال أولئك المتصوفة الذين كانوا يرون أن حديث القلب عن الرب أولى من حديث فلان عن فلان في سلسلة أسماء طويلة يرون أنها تحجب عن الله، تحولت إلى أحاديث منسوبة للنبي ثم نسبت لله بسبب طبيعة صياغتها.
ومن التساؤلات أيضا: إذا كان كلام النبي وحيا فلماذا اكتفى عثمان بنسخ القرآن وحده وتوزيعه على الأمصار دون أن يرفقه بكتاب أحاديث النبي المفسرة والمبينة كما يقولون فهل وزع عثمان والصحابة وحي القرآن دون وحي الحديث؟
ولماذا تزداد الأحاديث المنسوبة إلى النبي مع المحدثين كلما ابتعدنا عن زمنه وتقل مع كل فقيه اقترب من زمنه؟! فأبوحنيفة أول الفقهاء الأربعة هو أقل أقلهم رواية للحديث، ثم جاء بعده مالك وتكاثرت معه تلك الروايات قليلا في كتابه الموطأ، ثم جاء بعده الشافعي فاتسعت رواية الحديث بشكل أكبر كما في كتابه الأم، ثم جاء بعده أحمد فصارت رقما كبيرا في مسنده، فزادت الروايات من عشرات مع أبي حنيفة إلى عشرات الآلاف مع أحمد؟!
لقد حذرنا القرآن من أن نقع في علل الأمم السابقة من أهل الكتاب، الذين أضافوا تاريخهم وأقوالهم إلى كتاب الله, ثم قالوا هو من عند الله! وقد نجونا من تلك العلة وحفظ الله كتابه من الإضافة أو النقص، ولكننا وقعنا في علة أخرى مشابهة فنسبنا كلام النبي خارج القرآن لوحي الرسالة، ثم انفرط باب الحديث فنسب كلام الوضاع والمتعصبين والصالحين إلى النبي ومن ثم صار وحيا منسوبا لله، أليس في هذا مشابهة لعمل الأحبار والرهبان من قبل؟
لقد عرفوا الحديث النبوي بأنه : كل ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير. وهو تعريف لا يضع حدودا واضحة وفاصلة بين كلامه وفعله بالوحي وكلامه وفعله البشري العادي، فهو بلا شك يتحدث بصفته البشرية إلى نسائه ويداعبهن ويشتري ويبيع ويمزح ويخالط الناس.. والتعريف لا يحدد فاصلا واضحا بين هذا وذلك، مع خطورة اختلاط الأمرين، فقد يتحول عمله البشري أو عمله الاجتهادي إلى وحي خالد كالقرآن، وهذا يعني اختلاط الدين بما ليس منه.
إننا لن نجد منهجا دقيقا عند جميع المذاهب يحدد بوضوح متى كان يتكلم وحيا ومتى كان يتكلم بصفته العادية؟ ألا يستحق هذا الموضوع الخطير منهجا دقيقا واضحا للفصل بين تلك الحالتين؟
إن مسألة اختلاط الوحي بغير الوحي ليست مسألة بسيطة حتى يتهاون فيها الناس، فالقرآن متفق بين المسلمين جميعا أنه وحيا من عند الله، أما الحديث فلا يستطيع مسلم واحد الجزم بأن النبي قال هذا الحديث أو ذاك حتى فيما سموه صحيحا، إذ احتمال الكذب وارد كما يقول ابن الصلاح وغيره، فهل ندخل ما كان فيه الاحتمال واردا إلى ما كان فيه يقينا ونجعله كله من عند الله؟
إذن فما هو المنهج الدقيق الواضح في التعامل في كل ما صدر عن النبي؟ وكيف نفرق بين الوحي وغيره؟ الإجابة في المقال القادم إن شاء الله.
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.