آراء ومواقف

عن أدونيس وجدلنا “العقيم”

لا أريد أن أدخل في جدل عقيم”، قال لي الشاعر أدونيس، قبل أن يسترسل لاحقاً في الجدل الذي وصفه بالعقيم، قبل أن يبدأ،  سعدية مفرح
“لا أريد أن أدخل في جدل عقيم”، قال لي الشاعر أدونيس، قبل أن يسترسل لاحقاً في الجدل الذي وصفه بالعقيم، قبل أن يبدأ، في معرض رده على مداخلتي التي اعتمدت فيها على ما كتبته في مقال نشرته في “العربي الجديد” عن موقف أو “مواقف” الثابت والمتحول والمتناقض أدونيس من قضايا كثيرة تتشابك حول بؤرة واحدة؛ الديمقراطية بوصفها أسلوب حياة وطريقة تفكير وحلماً جمعياً لكثير من الشعوب الحرة، ومنها الشعب السوري الذي ثار منذ سنوات على نظام الطاغية، حراً ومستقلاً وسورياً أولاً، قبل أن تجهض ثورته بتدخل تسعة وتسعين في المائة من شعوب وأحزاب وجماعات وحكومات ومليشيات الأرض فيها.
‏كان أدونيس يحاضر في سياق مهرجان أثير للشعر العربي (يختتم مساء اليوم الخميس) في مسقط، عن جملة من القضايا الفكرية والشعرية، متكئاً على قليلٍ من السيرة الذاتية، ومكرّراً بعض مقولاته القديمة عنها، بطريقته الأخاذة في الكلام وأسلوبه الساحر في الدخول والخروج من موضوعاته المتنوعة، بسلاسة شعرية ونثرية تميز بها دائماً، وبصوت متهدّج، زادته سنوات العمر التي ربت على الثمانين أناقةً وهدوءاً، لكن هذا كله لم يكن ليغطّي جملة التناقضات التي حفلت بها خطاباته الفكرية، أخيراً، ومنها خطابه في مهرجان أثير.
‏في مداخلتي التي سمحت لي فيها إدارة الجلسة بتجاوز الوقت المعتاد للمداخلات، بكرم لافت، على الرغم من اعتراض بعضهم، قلت كلاماً كثيراً مستلاً من مقال “العربي الجديد” منه؛ “إن أدونيس يعلل سبب رفضه مناصرة الشعب السوري في ثورته بأنها انطلقت من مسجد، ويرفض ذلك المنزع الديني الذي نزعت إليه. حسناً. يمكننا بسهولة تقبّل هذا التعليل في سياق علمانية أدونيس، لولا سابقته الشهيرة في تأييد الثورة الإيرانية التي انطلقت من “حوزة”.
يومها، لم يكتفِ أدونيس بتأييد ثورةٍ يقودها “رجل دين”، وبشعاراتٍ دينية وحسب، بل إنه بالغ كثيراً في تأييدها، إلى درجةٍ جعلته يتخلى قليلاً عن حداثته الشعرية، ويكتب قصيدة مديح تقليدية لتلك الثورة، قال فيها: “سأغنّي لـ(قم)، لكي تتحوّل في صبواتي، نارَ عصفٍ، تطوّف حول الخليج”. وعلى الرغم من أن صاحب “الثابت والمتحوّل” بقي ثابتاً على قصيدته تلك، ولم يتحوّل أو يحيد عنها، أي أنه لم يتنصل منها في أي مرحلةٍ من حياته لاحقاً، إلا أنه لم يجد غضاضةً في الازورار عن الثورة السورية التي اشترك فيها، منذ البداية، المسلم والمسيحي وغير المؤمن بالأديان. في البداية، لم يتحمّس أدونيس للثورة، ثم انتقدها بشدة لاحقاً، ثم فضّل النظام الديكتاتوري الحاكم عليها. وأخيراً، رفضها تماماً، فقط لأنها لم تجد مكاناً، أو ظرفاً، تنطلق منه سوى الجامع، متناسياً قيمة الجامع ووظيفته في البلاد الإسلامية، وهي وظيفةٌ تتعدّى تقليدياً الدور الديني، لتجعل منه بؤرةً من بؤر الحياة المدنية. ومن هذا المنطلق، لم يجد مثقفون ومفكرون سوريون كبار، ومحسوبون على التيار الليبرالي والعلماني، وباختلاف خلفياتهم الدينية، مثل صادق جلال العظم وعزيز العظمة وعبد الرزاق عيد وعارف دليلة وبرهان غليون وميشيل كيلو، وغيرهم، أيّ غرابةٍ في أن يكون الجامع بداية الانطلاق للثورة، بل إنهم لم يتوقفوا عند هذه الجزيئة الإجرائية، وهم ينحازون لصفوف الثوار، كما يليق بمثقفين حقيقيين. قرأت تقريباً كل مقالات أدونيس في السنوات الأخيرة، وتابعت معظم لقاءاته الصحافية والتلفزيونية، وخصوصاً التي تتناول الشأن السياسي والمجتمعي والفكري، ولكنني لم أعرف، حتى الآن، ماذا يريد أن يقول لنا بالضبط”.
والمداخلة من أصل المقال أطول مما أورده هنا، لكن الجدل “العقيم” كان منعدماً، وفق ما سمحت به ظروف المحاضرة، وإن كان هذا لا يمنع من استئناف الجدل في تفريعات ومسارب أخرى، حتى لا يكون عقيماً، على الأقل وفقاً لرؤية أدونيس المتعجلة والغاضبة لحظتها. ولن يكون في استئنافه أي مبالغة متوهمة، فالقضية أخطر مما نتوقع، وهي تغادر أدونيس وتغادرنا كلنا كأفراد، لتحيل إلى قضية المثقف وعلاقته بالسلطة من جهة، وبالجماهير من جهةٍ أخرى، وهي قضيةٌ جدلية بالفعل!
نقلا عن العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى