آراء ومواقف

محنة المدنيين بين الإرهاب ومحاربيه

عبدالوهاب بدرخان

للمرة الثانية خلال بضعة شهور يدلي مسؤول أميركي بتقدير «متحفّظ» لعدد قتلى تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) منذ بدء الحرب عليه في سبتمبر 2014 للمرة الثانية خلال بضعة شهور يدلي مسؤول أميركي بتقدير «متحفّظ» لعدد قتلى تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) منذ بدء الحرب عليه في سبتمبر 2014. ففي أغسطس الماضي قال الجنرال شون ماكفرلاند إن نحو 45 ألفاً من مقاتلي التنظيم «لم يعد لهم وجود بفضل العمليات الأميركية». وقبل أيام قال مسؤول عسكري أميركي: إن «داعش» فقد نحو 50 ألفاً من مقاتليه. وإذا صحّت هذه الأرقام فإنها تتناقض مع تقارير سابقة قدّرت قوة التنظيم بما لا يتجاوز 20 إلى 30 ألفاً، وبما أنه يقاتل بشراسة في الموصل آخر معاقله العراقية، ولا يزال مسيطراً في الرقة ومنتشراً خارجها في سوريا، فهذا يفترض أنه استطاع تجنيد ما يفوق مئة ألف مقاتل.
لم يشر المسؤولان الأميركيان إلى المدنيين الذين قضوا في الغارات على «الداعشيين» إذ يمكن أن يكونوا ضعف العدد المذكور، على الأقل. يضاف إليهم مَن أقدم التنظيم على إعدامهم خلال العامين ونصف العام من سيطرته، ومَن يعرّضهم للقتل بخوضه الحرب من الأبنية التي يسكنون فيها. بل يضاف إليهم أيضاً مَن تعرضوا لتصفية مباشرة أو خطفتهم ميليشيات «الحشد الشعبي» التي منحها البرلمان والحكومة العراقيان «شرعية» قانونية. والواقع أنه لن تُعرف حقائق محنة المدنيين قبل مرور وقت طويل، خصوصاً أن المراجع الحكومية تحصر اهتمامها بـ «محاربة الإرهابيين» وتتعامل مع معاناة المدنيين باعتبارها «أضراراً جانبية». وهكذا وقع السكان في أسوأ الأفخاخ التي يمكن تخيّلها وقد استعداهم فيها الجميع، سواء حكومة نوري المالكي التي اضطهدتهم أو تنظيم «داعش» الذي «حرّرهم» منها ثم اضطهدهم بدوره أو الذين «يحرّرونهم» منه الآن ليعاودوا اضطهادهم بواسطة ميليشيات «الحشد» هذه المرّة.
تمثّل مجزرة بلدة القائم في الأنبار (7 ديسمبر) نموذجاً لما يتعرّض له المدنيون، إذ شنّ سلاح الجو العراقي حديث التجهيز والجهوزية سلسلة غارات في وضح النهار على سوق مزدحمة في القائم، معلناً أنه يستهدف «وكراً للإرهابيين». كانت الحصيلة أكثر من مئة وعشرين قتيلاً ومثلهم من الجرحى، غالبيتهم من المدنيين وبينهم عشرات الأطفال والنساء. لم تكتف قيادة الجيش بنفي سقوط مدنيين، بل اتهمت من يتحدث عنهم بأنه يروّج لادعاءات «داعش»، لكنها لم توضح دوافع استهداف القائم على هذا النحو العشوائي، وما إذا كانت تصفية بضعة أفراد من «داعش» تبرّر قتل أضعاف أضعافهم من المدنيين. وليس متوقّعاً أن يتوصل التحقيق الذي طالب به رئيس البرلمان، إذا حصل، إلى تحديد هذه الدوافع التي تُختصر بأن الحكم في بغداد لا يميّز بين المدنيين والإرهابيين.
المؤكّد أن ما شهدته القائم مجزرة لا يمكن تبريرها على الإطلاق، حتى لو كانت الذريعة قتل «داعشيين». فهي لا تكشف فقط كذب تأكيدات حكومة بغداد بذل كل جهد لحماية المدنيين، بل تفضح كذلك غياب هاجس الحماية هذا لدى مَن يدير الحرب وقد سبق لطيران «التحالف الدولي» أن ارتكب أعمال قتل كهذه ولو بضحايا أقلّ. لكن تكرار هذه الجرائم وتجاهلها أو تبريرها بدواعي الحرب على الإرهاب كما لو أنها حصانة قانونية، تشكّل الوصفة الآثمة لمراكمة العنف والتطرّف وتجدّدهما بوصفهما السبيل الوحيد لتنفيس الاحتقانات الاجتماعية. ثمة أسباب للإرهاب بينها دولة غائبة أو مغيّبة، أو دولة موجودة لكن ضعيفة، أو دولة صادرتها فئة لاضطهاد فئة أخرى.;
نقلا عن العرب القطرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى