ذا تجاوزنا المقدمات التي مهد بها إبراهيم أبو طالب لكتابه «تطور الخطاب القصصي من التقليد إلى التجريب
إذا تجاوزنا المقدمات التي مهد بها إبراهيم أبو طالب لكتابه «تطور الخطاب القصصي من التقليد إلى التجريب: القصة اليمنية نموذجا» غيداء للنشر ـ عمان 2017، والتوطئات التي تؤسس لرؤيته الخاصة ودراسته الجيدة، وجدناه يستهل هذه الدراسة بوقفات إزاء الحدث القصصي، وهو موضوع الفصل الأول من الكتاب، فيسلِّط فيه الضوء على موقف كتاب القصة من اختيارهم للحدث، وروايتهم له، وتأثيره في النسيج اللساني للقصَّة.
ويبدو أنَّ الكتَّاب في اليمن، كغيرهم في البلاد العربية، ظنَّ الأولون منهم ألا فرق بين القصة القصيرة والرواية، فكانوا يضمِّنون القصة القصيرة حكايةً طويلة تشبهُ الرواية، وقد لخّصتْ تلخيصًا شديدًا. قبل أنْ يُدرك الكتّاب هذا الوهم، فاتجه القاصُّ اليمنيُّ كغيره أيضًا إلى اختيار الحدث المكثف الذي يقف عند لحظة من حياة الشخصية، وبذلك اقتربتْ القصة من الجنس الأدبي المعروف بالقصَّة القصيرة. ولم يزلْ الكتابُ يتقدمون في هذا الاتجاه خطوةً تلو الأخرى، حتى وجدنا الحدثَ المفكَّك، والحدَث الرمزيَّ، والحدث الخرافي، والأسْطوري، والغرائبيّ أو العجائبيّ، وقد توَّج الكاتبُ اليمنيُّ هذه المساعي- في نهاية المطاف- بكتابة الحدثِ الوَمضَة، كما يُسمّيه المؤلف. وحتى هذا النوع من الحدث، لم يسلمْ من التجريب، فنجد منه الوَمْضة الشعرية، والومْضة الفِكْرة، والومْضة الكاريكاتيرية.
لقد قدم المؤلف عرضًا مفصلا لنماذج من هذا اللوْن، الذي شاعَ، وانتشرَ، تحت مُسمَّى القصة القصيرة جدًا، ولو أننا كنَّا نأملُ منه أن يبيِّن لنا ـ وهو قادرٌ على ذلكَ بلا ريْبٍ- ما الذي أفادهُ فنُّ القصة القصيرة بتخلي كتابه عن تجْليَةِ الحدث القصصي بمفهومه المتعارف عليه في القصَّة غير القصيرة جِدًا.
أما الشخوصُ، فموضوعٌ آثر المؤلفُ أن يتناوله في الفصل الثاني، وقد صنَّف الشخوصَ إلى أبطال إيجابيِّين، وأبطال مأزومين، وأشخاص رمزيّين، وفي هذه الحال تكون الشخصية الرمزية بمنزلة الدالّ، والشيء الذي ترمز لهُ، وتومئ إليه، بمنزلة المدلول. وهذا الضربُ من الترميز يكثر في القصص ذات الطابع الإيديولوجي، كما هي الحال في قصة «الغول» لمحمد عبد الولي، وشخصية «عمّ صخْر» في قصة «الكرنفال» لسعيد عَوْلقي. وقد يتعدى الرمز الشخصياتِ الذكور للإناث، كما في قصص محمد عبد الولي، ومنها «عند امرأة» و»إلى طريق أسْمَرا» ما يستحوذُ على عناية الدارس عبد الرحمن عبد الخالق في تناوله «للمرأة والجنس في أدب محمَّد عبد الولي» (1992).
ويختصُّ الفصلُ الثالثُ بالحديث عن التقنيات السرْديَّة متوقفًا عند اختيار الكاتب لراويه، والطريقة التي يتبعها في روايته لمحكيّه القَصَصيّ، والمسافة بين الراوي، والوقائع المروية، أو بين الراوي والمروي له. مؤكدًا أننا نعثر في القصة اليمنية على أنواع شتى من الرواة، فمنهم من يروي الوقائع أثناء وقوعها، ومنهم من يرويها بعد وقوعها بزمنٍ طويلٍ أو قصير، ومنهم الراوي الذي يروي الوقائع من الداخل، أي أنه يشغل حيزاً في القصة، ويؤدي فيها دورا كدور الممثل في المسرحية، فهو راوٍ مُمَسْرحٌ. ومنهم الراوي الذي لا علاقة له بالوقائع، ويوصفُ عادةً بالراوي العليم وقد فصَّل القول في هذه الأنواع تفصيلا مشفوعًا بالأمْثلة، مبينًا المزايا الفنية لكلِّ نوع، وتأثير هاتيك المزايا في النسيج القَصَصيّ. ومن تقنيات السرد التي يتطرق لها الكتابُ ما يسمى الفضاء القصصي والمكان، سواء أكان مكانًا حقيقيًا كمحل العطور في إحدى القصص، أو الزقاق، أو منضدة في مكتبة عامة كدار الكتُب، أمْ مكانا شعريا ورمزيًا. وتوقف في نهاية الفصل عند تنوع السرد بتنوُّع الراوي. وهو تنوعٌ يقودُ المؤلِّف إلى الحديث عن أشكال القصة القصيرة؛ فهي إما أن تكون على هيئة المقالة، أو اللوحة القلميَّة، كقصة «خمسة أقدام من الجدار» لمحمد أحمد عثمان، أو القصة الحكاية، التي تتخلَّلُها في بعض النماذج: خرافةٌ شعبيَّة، أو شكلٌ آخر من أشكال السرد المحلّي، والمحكيّ القصصيّ، وهو سلسلة من القصص التي تتألفُ منها قصة واحدة تسمى short story cycle وهذا النوع غلبَ على المرحلة الأخيرة في اليمن، وهي مرحلة التجريب. كما عرف المحكيُّ الخياليّ في القصة اليمنية ضربًا آخر هو نموذج تيار الوعي، وهو أيضاً من المظاهر السرديَّة الجديدة التي غلبت على مرحلة القصة اليمنية الأخيرة.
ومما يُحسبُ لصالح المؤلف، في هذا الكتاب، اهتمامُهُ اللافت بلغة القصة القصيرة، ذلك أن أكثر الذين يدرسون الأدب القصصي يمرون بلغة الكتابة القصصية مرورَ الكرام، وقلَّما يتوقفون لدى هذه المسألة بأناةٍ وتُؤَدَة.
وقد توقف أبو طالب إزاءَ اختيار الكتّابِ لعناوين القصص الجانبيّة منها والفرعية، وعندَ عبارات التقديم والإهداءات والاستفتاح، والمقدمات التقريظيَّة، والموازية للنصوص، وتبعًا لذلك تناول نماذجَ من القصة اليمنية، التي تحتوي على مثل هاتيك (العتبات) وما كان لها من تأثير مُباشر، أو غير مباشر، في نموِّ النص القصصي، وإلقاء الضوء على دلالاته وجمالياته، من حيث التشكيل السردي واللغوي. ولم يفتْهُ ما في ذلك- أحياناً- من اعتمادٍ على التناصّ، بأشكاله الأدبي، والديني، والتاريخي، واللغوي، مما يُضفي على الملفوظ السرْديِّ طابَع التنوّع والجمال، في الوقت الذي يُبوِّئهُ موقعًا مُتَخيرًا في السياق الثقافيّ والمعرفيّ، لهذا اللون الأدبيّ.
وبما أن السَرْدَ القصصي لا بد أن يتخلَّلُهُ الحوارُ، ويتخلَّلُه الوصفُ، فقد جعل المؤلفُ من الحوار أحَدَ تقنيات السرْد، وثمة باحثون، لا يستهان بآرائهم، يؤكدون أن للحوار طبيعَةً مستقلة عن السرد، فإذا كان السردُ تعبيرًا عن تتابع الوقائع في زمن ذي نسق ما، فإن الحوار يؤدي إلى توقُّف هذا التتابُع، ويهيئ للشخوص فرصة يعلقون فيها على الحوادث، أو يحللون ما يحتاج منها إلى تحليلٍ يشفّ عن طِباع الشُخوص، سابرًا غور الشخصية عبر ما تقوله من أقوال وَمَنْطوقاتٍ. وهذا هو أيضا شأن الوصف الذي يؤدي إلى توقف السرْد تمامًا كتوقُّف عقربيْ الساعة عن الدَوَران. وإذا أمكن القول عن الرواية والقصَّة، إنها نصٌ ذو أركان ثلاثة، هي: السردُ والحوار والوصف، فإن السردَ فيها هو الحكاية محذوفاً منها الوصفُ والحوار. وقد أسْهب الباحثُ في الكلام على أنواع الحوار معلقاً على كل نوع من خلال الشواهد المقتبسة من بعض القصص، مفرقًا بين حوار يطغى عليه الطابع النثري الخالص، وآخر يغلب عليه الطابَع الشعريّ. وعدَّ ظهور هذا النوع الأخير تطريزًا، ومن القصص التي يتجلى فيها هذا التطريز قصَّة « السُحُبُ المسافِرَة « لمحمد حيْدَرَة. علاوة على ما سبق، يغلبُ على المرحلة التجريبية الإفراط في المجاز، فتبدو الجملة في القصة كما لو أنها شعرٌ لا نثْرا. ومن أمثلة ذلك قصة «حسناء تهبط من السماء» لسامي الشاطبي. ومما يزيد هذه الظاهرة ألقًا لجوءُ بعض الكتَّاب للتكرار، فتكرار مفردة بعينها بدلالاتٍ مختلفة، أو غير مختلفة، يُسْبغ على القصة إيقاعًا كإيقاع القصيدة، ومن أمثلة ذلك قصة «طرفي انسيابٍ مُريبٍ» لمحمد أحمد عثمان، فتكرار كلمة (ذبابة) في تلك القصة أضفى عليها الجوَّ الكابوسيّ.
واللافتُ للنظر أنَّ المؤلف لا يكْتفي في دراسَته هذه بالتتبُّع النظريّ، أو السوسيو- تاريخي، للعطاء القصصيّ المتراكم منذ عام 1940 إلى عام 2006 وإنما يقومُ باختيار بعْض القصص التي تمثل المراحل الثلاث الأخيرة، مستثنيًا المرحلة الأولى، فيقدم لنا دراسة تطبيقيَّة نصيّة لثلاث قصص، أولاها «الخطيئة» لباوزير، والثانية «العَطَشُ» لحسن اللوزي، والأخيرة «أدوار» لهدى العطَّاس، وقد أفادَ فيها من جلّ الملاحظات التي تشكلَتْ منها مادة فصول الكتاب.
ومما تتم به الفائدة أيضًا ذلك الثبَتُ بالمصادر والمراجع، الذي ألحقه المؤلفُ بكتابه، علاوة على ملحقٍ بيوغرافي يتضمنُ سيراً موجزة لـ31 كاتبًا وكاتبة، بعضُهم من رواد القصة، وبعضهم ما زال يواصل عطاءَهُ إلى الآن، وقد رُتّبَتْ التراجم زمنيًا، وَفْق صدور المجموعات المذكورة في الدراسَة.
وصفوة القول إنّ الكتابَ يَضعُ القصة اليَمَنيَّة القصيرة- التي لا نعرف عنها وعن كتابها الكثير- في موْقعها المناسِبِ من خريطة القصّة العربية القصيرة، وهذا حَسْبُه.
نقلا عن القدس العربي