كتابات خاصة

نفوسٌ شاهقة

أحمد الرافعي

للتاريخ سردياته المحفوظة في ذاكرة الشعوب، والتي مسطور فيها مثل هذه اللحظات الفارقة التي تُلهم أجيال التحرر وتسري أنباؤها لتصل إلى كل المؤمنين بفكرة الكفاح فتوقظ الغافل وتَفرُك عيون الناعسين. (يااخي: كنت اسأل نفسي هل في استطاعتي النظر في وجه زوجتي
لو أني ضعفت ولاحَظَت عيونهم مني قلة الإحتمال؟ ثم اتبع الكلام بسؤال:
هل جرَّبت يوماً المرارة التي تخلِّفها في فؤادك لمعة الظفر الشامتة في عيون العدو).
بهذه العبارات أجابني أحدُ المختطفين عن سؤالي: حول مُحفِّزات الصبر
وهم في قبضة الخصم داخل السجون. (ومع تأكيده بأننا لو استثنينا اللحظات الطارئة التي يبلغ فيها الانهاك مداه، والضعف منتهاه، وينوء الجسد بحمل البلاء الثقيل إلا أنها لحظات طارئة سُرعان ما تستعيد بعدها الروح عافيتها، وتحشد أسلحتها الممانعة في وجه السَّوط)، وهي ذات الإجابة التي سيهمس بها الشهداء في أُذنك لو قدِّر لهم العودة للحياة. سيحدثك الشهيد عن اقتحام الموت فراراً من ذلك الشعور القاتل: (شعورك بالدُّونية، وأنّ رجولتك قد تصدع بنيانها تحت معاول التخويف والإرجاف).
أما الجريح فسيحدثك بكلماته المحفوفة بالنور: بأن مرافقة الجراح أهون من حمل العار. وأنَّ الـتأوهات التي يصدرها جُرح الجسد ليست (ذا بال) إذا ماقورنت بتأوهات الأرواح المثخنة بالجروح وستقول لك إبتسامته المكابرة: بأن َّفقدان عضو بَتَرَتهُ في ساح الوغى رصاصة ُالأعداء خيرٌ من الإختباء في كهوف الذُّعروأنت مكتمل الأعضاء.
وهي إجاباتٌ تفوح منها معاني التجاوز وتعالي الكرامة الإنسانية التي نفخ فيها العلي من روحه  وأمر الملائكه أن تخر لها ساجده! وتلك لَعمري حركة النفوس العظيمة على الأرض والتي حدثك المتنبي عنها: (وإذا كانت النفوس كبارا ** تعبت في مرادها الأجسام).
بغير استدعاء هذه الحسابات المتفرده للروح، ومن دون استقرار هذه الحالة من الإيمان واليقين في الأفئدة لا يمكن أن تجد تفسيراً لكثير من القصص التي يكتبها شبابنا كل يوم على امتداد التراب اليمني المقاوم أو في غياهب السجون، أو فوق فراش الجراح الغائرة. هؤلاء الرجال الذي استقر اليقين في دواخلهم: بأن الأوطان حين تلهث من الظمأ وتلهبها سياط البغي: فإن الشرف يكمن في ذؤابة سيف أو فوهة بندقية أو برودة قيد أو اغترابٍ يحمل هم القضية. وفي منطق هولاء الأبطال: فإن العيش وشعور التقصير والتهاون أو البطالة يتشبث بهم عيشٌ يفوق قدرة أرواحهم على الإحتمال!
كذا هو حال كل الأشياء الشاهقة الإرتفاع لا يصل إليها بصرك إلا حين ترتفع مقلتيك إلى الأعلى فترى قممها تصافح غيوم السماء. كل هذه القصص يؤذن منها صوت الإنسان الحق  (خليفة الله) الذي هبط إلى الأرض ليعبد الله وحده، ويفعل الخير فيها وينهى عن الفساد وينهض في مواجهة الطواغيت والمستكبرين!
للتاريخ سردياته المحفوظة في ذاكرة الشعوب، والتي مسطور فيها مثل هذه اللحظات الفارقة التي تُلهم أجيال التحرر وتسري أنباؤها لتصل إلى كل المؤمنين بفكرة الكفاح فتوقظ الغافل وتَفرُك عيون الناعسين، وتأخذ بيد الخامل، وتشحذ همة المتردد، وتمنحنا مزيداً من العزم والصبر في طريقنا نحو الفجر.
على صفحات التواصل الإجتماعي: شاهدت صورتين للشاب الشهيد (أسامه  العامري) في الاولى يتلألأ وجهه الوسيم بالإبتسامة وله جسم فارع الطول يمتلئ بالبهجة والحياة. والصورة الأخرى على فراش الجرح رافعاً شارة النصر، وله ذات الإبتسامة! وسرى في جسمي شعور بضآلة وتفاهة أهدافنا الدائرة في فلك الجسد وتحقيق منافعه الأرضية!
تلكم الأهداف التي تحاكمها وتكشف عوراتها أرواحٌ عظيمة تصلنا أخبارها كل يوم، ومن كل الجهات المقاومة.
تلك النفوس الشاهقة الجريئة التي حسمت أمرها، ومضت بلا تردد صوب حياتها المتفردة وخلَّفتنا في خرابة نطلق عليها اسم (الحياة)!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي. 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى