لا أكون مبالغا إن قلت لكم إن إحدى أهم وأبرز مشكلات الفكر الإسلامي تكمن في المنهجية التي يتم بها التعامل مع الروايات المنسوبة للنبي عليه السلام في كتب الحديث، ولا أبالغ أيضا إن قلت أن أي باحث أو مفكر إسلامي يبحث في جذور مشكلات العقل الإسلامي ولم يحسم أمره في هذه القضية فإنه يكوّن تصورا متناقضا عن الفكر الإسلامي. لا أكون مبالغا إن قلت لكم إن إحدى أهم وأبرز مشكلات الفكر الإسلامي تكمن في المنهجية التي يتم بها التعامل مع الروايات المنسوبة للنبي عليه السلام في كتب الحديث، ولا أبالغ أيضا إن قلت إن أي باحث أو مفكر إسلامي يبحث في جذور مشكلات العقل الإسلامي ولم يحسم أمره في هذه القضية فإنه يكوّن تصورا متناقضا عن الفكر الإسلامي، وسيبتعد عن إحدى أهم المشكلات في قضايا الدين إن لم تكن أهمها، وسيقع في مشكلة خطيرة هي خلط الدين بما ليس منه.
خلال خمسة عشرة عاما تنقلت بين ما كتبه المدافعون عن حجية الحديث والذين جعلوه وحيا في استدلالاتهم، وما كتبه أولئك الرافضون لتلك الحجية وما وصلوا إليه من نتائج مختلفة، قارنت ولخصت ووقفت عند أدلة كل فريق، واستفدت من كل حجة قوية لدى كل فريق فكان ذلك عونا لي لأخرج بما أراه أدق منهجية في التعامل مع ما صدر من النبي أولا وفي التعامل مع الروايات التي بين أيدينا والمكتوبة في كتب الحديث ثانيا، مستعينا بما كتبه الأصوليون والمحدثون في هذا المجال، فتوافقت معهم مرة واختلفنا معهم مرات، وسلكت طريقا أظنه أكثر وضوحا واتساقا مما عليه الأصوليون والمحدثون.
كثيرة هي العلل والمشكلات التي وجدتها أثناء بحثي في هذه القضية والتي كانت تمر على العقل المسلم دون توقف عندها أو تساؤل، وكثيرة هي الأسئلة التي دارت بذهني حول مشكلات الحديث ولم أجد لها إجابة، أكثر تلك الأسئلة كانت قد طرحت من قبل، وبعضها جاء نتيجة تأمل طويل وتفكير عميق، في جو من التصوف والابتهال إلى الله لتيسير طريق الحقيقة، فالمسألة سينبني عليها إعادة فهمنا لكثير من قضايا الفكر الإسلامي.
لقد بلغت العلل المتعلقة بالحديث كما كبيرا أثناء تدويني لها في دفاتري التي تبعثرت طوال هذه السنين حتى فكرت مرة مازحا أن أكتب كتابا بعنوان “ألف علة وعلة في الحديث” على طريقة الكتاب المشهور “ألف ليلة وليلة” لكثرة العلل الكبيرة والصغيرة التي وجدتها في قضية الروايات المنسوبة للنبي عليه السلام، علل تناقضها مع القرآن وعلل تناقضها مع العقل وعلل تناقضها مع بعضها بعضا.
وحتى لا يتشتت القارئ في تلك العلل سأحاول ربطها في أهم سؤالين مطروحين على الحديث، سؤالين محوريين لم أجد لهما إجابة شافية في تراثنا الإسلامي. السؤال الأول هو: هل حديث النبي خارج القرآن يعتبر وحيا أم لا؟ وإذا لم يكن وحيا فما هو إذن؟ وكيف تعامل معه صحابته المؤمنون؟ وكيف سنتعامل معه نحن؟ والسؤال الثاني هو: هل يمكن الجزم بأن الروايات الموجودة اليوم في كتب الحديث من قول النبي عليه السلام ؟ وإذا لم يمكن الجزم بذلك فكيف نتعامل معها اليوم؟ وهل كانت الشروط التي وضعها المحدثون منطقية ومعقولة وكافية لعدم اختراقها بالوضع والكذب؟ متى نأخذ من تلك الروايات ومتى نترك؟ وإذا أخذنا فعلى أي أساس؟ وأين مرتبتها في التشريع؟
سأدون تلك الأسئلة وتفريعاتها مع إجابة كل سؤال في حوار ثنائي مع نفسي يوم أن كنت متبنيا لوجهة النظر التقليدية تجاه الحديث، وسيكون الحوار داخل “الأنا” بين زمن ماض “قال” وزمن حاضر “قلت”، أضع تساؤلاتي وما كان يدور في ذهني وأضع ما كنت أتوصل إليه من إجابة وهل وقفت الإجابة على قدميها أم جاء سؤال وأبطلها.
تساؤلات أخرج منها إلى استقراء إجابة تستطيع أن تجمع في عقدها بيان تلك الأسئلة المتناثرة هنا وهناك حول الحديث وتدوينه وطريقة حفظه وموقعه …الخ.
أوّل الأسئلة وأهمها هو هل كلام النبي خارج القرآن وحيا أم لا؟ وإذا كان كلام النبي خارج القرآن وحيا فلماذا لم يحفظه كما حفظ القرآن؟ ولماذا نهى النبي عليه السلام –كما في أكثر الروايات توثيقا- عن كتابة حديثه خارج القرآن؟ “لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه” فهل ينهى النبي عن كتابة الوحي (أي كتابة الدين)؟
ثم حدثت نفسي لو كان حديثه وحيا لأمرهم بكتابته وحفظه في صدورهم بشكل جماعي لا فردي، أما ما يبررونه من خوف النبي من اختلاط كلامه بالقرآن فقول لا يقبله عقل ولا منطق، إذ ما داموا يعتبرونه كله وحيا (أي القرآن والحديث) فلم الخوف إذن من اختلاط الوحي بالوحي؟ إلا إن كان الخوف هو اختلاط الوحي بغير الوحي وهنا المشكلة الكبرى.
وإذا كان وحيا لماذا لم يدونه الخلفاء الراشدون ومن بعدهم؟ ولماذا استغرقوا قرنين من الزمان حتى تم التدوين؟ وهل يمكن أن يروى كلام بشر لمدة مائتي عام وأكثر دون أن يصيبه التحريف والتبديل والنقص والزيادة؟ خاصة إذا كانت روايته بالمعنى كما هو عند المحدثين وما أقره كبارهم!!
ثم إذا كان كلامه خارج القرآن وحيا فهل استوعبت كتب الحديث التي بين أيدينا اليوم كل ذلك القول والفعل والتقرير أم أنها لم تدون الكثير والكثير من ذلك؟
لا أظن أحدا يستطيع القول بأنها استوعبت ذلك، لأن كل المكتوب في كل الكتب بما سموه صحيحا وحسنا وضعيفا وموضوعا لا يتجاوز خمسين ألف حديث، وهذا الرقم لو وزعناه على ثلاثة وعشرين عاما هي فترة النبوة كما يحكيها التاريخ أي (8395) يوما فإنها ستكون قليلة جدا، إذ الإنسان يتحدث ويفعل ويقر في العام الواحد بما يزيد على بأضعاف كثيرة فكيف في ثلاثة وعشرين عاما، ثم كيف لو حذفنا ما ضعّفوه وما كذبوه من ذلك العدد، سيذهب أكثر من أربعة أخماس ذلك الرقم! أما إذا اعتمدنا ما اعتبروه في أعلى درجات التوثيق فإنه لا يتجاوز خمسة آلاف كما هي عند البخاري ومسلم.. فهل ذلك الذي اعتمدوه قد شمل كل فترة النبوة أم أنه قليل جدا وبهذا نقول أن هناك وحي كثير ضائع لم يدونوه؟ ألا يدركون خطورة أن يكون هناك وحي ضائع (دين ضائع).
ثم إنا لو تأملنا في ذلك المكتوب فإنا سنجد أنه كتب عن فترة العهد المدني فقط أما العهد المكي فلا نكاد نجد له أثرا في كتب الحديث، فأين أحاديث العهد المكي؟ أم أن كلامه في ثلاثة عشر عاما -هي فترة العهد المكي- قد ضاع؟ هل ضاع الوحي المكي؟ وهل استوعبت كتب الأحاديث فترة العهد المدني وأهم ما فيها؟ أم أنها دونت حب النبي للدبا وتفاصيل قضاء الحاجة لكنها لم تدون خطب النبي في عشر سنوات منذ بدأت خطبة الجمعة في المدينة، فضاع منا ما يقارب خمسمائة خطبة! لماذا لم تدون تلك الخطب رغم أهميتها وسماع الناس جميعا لها بدل ذلك الخطاب الفردي الذي سجلته كتب الحديث مخاطبا به النبي فلانا من الناس؟ هل ضاعت خمسمائة خطبة من الوحي؟
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.