عبد العليم، أو “عبد الأليم” باللهجة التهامية التي تتبادل فيها حروف الحلق. لشدَّ ما تَعرَّضَ عبد الأليم للألم وشربَ كأسَهُ دِهاقاً في ليالي (هبره)! في البقعة التي خلقها الله وحوّلها السجَّانُ إلى واحدةٍ من أملاك الشيطان! الهواء باردٌ ولعجلات السياره صريرٌ وهي تطوي الاسفلت في طريقها نحو الحديدة.
لِمَ صار البُكور عاجزاً عن إنعاشنا في لحظات الشروق!
ومن يخبرنا لماذا هاجرت أصوات العصافيرالصافية من صبح صنعاء!
صنعاءُ التي تفوح منها روائح القهر
ويَصدحُ فيها صوت الفجيعة كلَّ فجر!
(ماتت بصندوق عفّاشٍ بلا ثَمنٍ) كما كان يردد عبدالعليم ساخراً في مقايل السجن.
في المقعد الخلفي للسيارة المُمتلئة بالركاب حشرَ نَفسَهُ. وسرَىَ الألم في ظهره لحظة التصاقه بالمقعد، وقفزت إلى ذاكرته لحظات التعذيب داخل سجن هبره.
(بتر الحوثيون جزءاً من عافيتي)!
رددها في دخيلته وهو يرفع يده ليتأكد من قدرتها على الإمساك بكيسه.
من بني مطر مرّت سيارتهم وجوار جَبلِ (النبي شعيب) الذي تُشرِفُ قمته السامقة على فصول المآسي لشباب اليمن في مسارح الظلم والاستضعاف.
طافَ شبحُ إبتسامةٍ مكسوةٍ بالمرارة في شفتهِ وهو يتذكر صاحبه التهامي الذي جِيئ به في هزيع الليل الأخير محمولاً على أكتاف السجانين وأُلقي بجسده النحيل ِعلى بلاط الزنزانة الباردة.
تذكّر كم ضلَّ يئنُّ مغشياً عليه طُوال الليل، ثمَّ في الصباح وبعد نومٍ متقطع مفزوع استيقظ يلهث من الظمأ وتبحثُ عيناه المبهوتة في تفاصيل وجوهنا المُرهَقَة.
ضلَّ لدقائقَ يتحسّسُّ ظهره أكثر من مرة، ثم قال بصوته الواهن والساخر معاً: (أبحثُ إن كان ظهري مازال في مكانه)!
تجاوبت ضحكاتنا من أرجاء العنبر، حتى جعفر الذي كان قد أفقده العام والنصف بَهجَته شاركنا الضحك.
وأنعشت سخريته أرواحنا التي بات أنِينُهُ الليليُّ يتردد في صداها.
عبد العليم، أو “عبد الأليم” باللهجة التهامية التي تتبادل فيها حروف الحلق. لشدَّ ما تَعرَّضَ عبد الأليم للألم وشربَ كأسَهُ دِهاقاً في ليالي (هبره)! في البقعة التي خلقها الله وحوّلها السجَّانُ إلى واحدةٍ من أملاك الشيطان!
ضلَّ يسترجع ذكرياته في سجن هبره الذي غادره قبل أمس بعد عشرة أشهر ويومين قضاها في السجن. وحزم أمتعته مسافراً يُوصل رسالة عبدالعليم إلى أمه.
الطريق مليئة بنقاط الحوثيين والبراميل وعليها صورٌ خضراء يتوسطها وجوه من مختلف الأعمار. مكتوب عليها كلمة (الشهيد)..
شهداء المعركة الخطأ!
دلفت السيارة إلى الحديدة، وقبل الظهيرة استقلّ سيارةً أخرى متجهاً نحو مديرية الزيدية. هاهي الزيديه إذاً. بلدة عبدالعليم.
وتحسس الرسالة التي مازالت في جيب سترته.
رسالةٌ كتبها عبدالعليم بالقلم الذي أخفاه الزائرون داخل أعواد القات لأحد رفاق السجن!
ليست رسالتَهَ وحده، كلنا شاركنا في كتابتها، وكلنا طلب منا عبد العليم أن نحذف ما لا يصلح للقول، وما يمكن أن يُؤشَّر لقلب الأم الذي يشمُّ بؤس فلذة الكبد من وراءِ السطور المكتوبة!
كم كان يحبُّ والدته، وكم كانت تحنُّ إليه. قالت لنا ذلك قصصه التي حفظناها من كثرة ترداده لها.
والدته التي قيلَ له في آخر زيارةٍ: إنها تعرضت لوعكةٍ، وإنهم آثروا الإبقاء عليها في القرية. وبلغوه سلامها ودعاءها. وأخبروه أنها ستكون بخيرفي قابل الأيام.
أسرَّ له عبدُالعليم بأن الشك ممزوجاً بالقلق يزعج قلبه هذه الأيام..
غير أنه يتعزَّى بالأمل. وهل يملك المختطف غير هذا العزاء؟!
ضلت قدماه تغُذّان الخطو نحو قرية صاحبه
الأماكن أبسط ممّا تصوّر! بقاع بسيطة أسندَ رجالُها اليمن في عمرها الواهن!
في طريقه مرَّت من جواره مئات الوجوه السمراء يتصبَّبُ من جبينها العرق وتُحَملِقُ في وجه هذا الزائر الغريب.
عبد العليم كان يُسمِّي قريته قِبلةَ السياحة اليمنية، ويردف ضاحكاً بأنها:
تستقبل سائحيها بنهيق الحمير التهامي.
ابتسم وهو يسمع النهيق قريباً وعالياً في منعرجات الزيدية.
عجوزٌ مرّت من جواره تكسو الطيبة تضاريسَ وَجهها المجعَّد.
سلَّم عليها وسألها عن بيت صاحبه.
لم يجد حينها تفسيراً لابتسامة العجوز حين نطق باسم عبدالعليم
وزادت حيرته حين أعقبت الابتسامةَ مَسحةُ حزنٍ طافت في عيون العجوز، ووصلت إلى قلبه!
(يووه عبدالأليم الله يهفظه..
يانوه ياولدي أنت رفيقه وكيف هاله؟)
أجاب إن عبد العليم بخير.
وسأل نفسهُ: هل حقّاً عبدالعليم بخير؟!
أشارت بيديها جهة الشمال نحو بيتٍ غاص في جملة من البيوت المتجاورة بلا فوارق، وتتشابه في تفاصيلها البسيطة.
يترآى البيت أمامه على بعد أمتار.
وعند البيت أصوات جَلَبه. وشيوخ يفرشون أرديتهم على الأرض وهم عليها يتمتمون بالتسبيح والحوقلة. والنساء يدخلن بكثافة إلى باحة الدار.
لاحظ وجوهاً تشبه وجه عبد العليم تذرف عبراتها بصمت.
ربما هذا هو مجدي الذي قال عبدالعليم إنه يشبهه كثيراً
بعد دقائق خرجت فتاةً محمولةٌ على محفَّةٍ مغشياً عليها
ومن ميكرفون مبحوح يسمع سورة (يس)!
أنساه لهيب هذه المشاهد ظمأ جوفه العطشان.
وأدرك أن السَّجَّان أخرَّه عن الوصول.
وأنه لن يتسنَّى للحاجة فاطمة قراءة رسائل ابنها
والحضن الذي كان يقول عنه عبدالعليم
(الخارج: هو حضنُ أمي)
وأمل َّ أن يَدفنَ فيهِ رأسَهُ بعد الإفراج.
صار مدفوناً في حضن الثرى!
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.