كتابات خاصة

عناصر الحجرية (1-2)

معاذ المقطري

وكان هذا العجوز المحشور داخل بنطاله الجينز وتحت قبعته الزنجبارية يحكم هذه الفرزة ويخضع المسافرين منها لفرز دقيق غير معلن، يصنف من خلاله عناصر الحجرية، لكنه يفعل من حيث هو حاكم ملك بذاته لا لصالح جهة ما.

باقي عنصر..
وقف المعلم “قشنون” مناديا بالمسافرين في رأس الشارع متجهين صوب الـ”فرزة ” التي ظل قائما عليها في مدينة التربة بالحجرية، إلى أن وافاه الأجل..
وكان هذا العجوز المحشور داخل بنطاله الجينز وتحت قبعته الزنجبارية يحكم هذه الفرزة ويخضع المسافرين منها لفرز دقيق غير معلن، يصنف من خلاله عناصر الحجرية، لكنه يفعل من حيث هو حاكم ملك بذاته لا لصالح جهة ما.
وما أن يصعد “العنصر” الذي ناداه، على متن السيارة الأجرة، حتى تراه يلتفت للسائق معرعراً:
ما لعارك يا جني.. باقي عنصرين.
حينها يكون العنصر الصاعد لتوه قد انزوى فوق مقعده داخل السيارة متحاشيا للعرعرة القشنونية الذائع صيتها في البلاد.. وهكذا يكرر: “باقي عنصرين.. باقي عنصر”، إلى أن يأتي العنصر الذي سيكتمل به نصاب الرحلة المتجهة إلى تعز.
في كل فرزة  تتابع منها رحلتك من تعز إلى صنعاء أو الحديدة وغيرها من المدن، تسمعهم ينادون:
باقي نفر.. باقي نفرين.. راكب.. راكبين.. الشيء الذي استعاضه قشنون بالعنصر والعنصرين!
لماذا؟
كثيرون أكدوا بأن هذا المتهكم الكبير قشنون كان مندرجا ضمن عناصر حزب “البعث القومي”  الذي كان يتزعمه الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين.
ومن خلال مشاركته في الإجتماعات التي يعقدها قاسم سلام الشرجبي، رئيس حزب البعث  “قطر اليمن” كلما زار هذا الأخير بلدته “شرجب” المجاورة لمدينة التربة، كان ذكر “العناصر” يتكرر على مسامع  قشنون، ضمن عبارات يرددها رفاقه في تلك الإجتماعات بمثل قولهم:
معانا 200 عنصر في شرجب.. 50 عنصر في الأحكوم.. عنصرين في ذبحان.. وهكذا.
كما يتكرر ذكر العناصر البعثية، إلى جانب عناصر أخرى في سياق الحديث عن المنافسين لحزب البعث، كالناصري والإشتراكي والإصلاح والمؤتمر..
كانت قرية شرجب الصغيرة والشهيرة في آن، موطنا أثيراً لنضالات واستقطابات البعثيين في اليمن، لكن زهو بعثييها كان مبالغا فيه، وكثيراً ما تغذيه أقاويل الخرافة المنسوجة حول بطولات صدام حسين.
حتى أن قاسم سلام ذاته ظل يكرس تلك الخرافات غير مكترث بواقعية قشنون وشعبيته وفرزته التي استخدمها لضرب الخرافة البعثية من تحت الحزام..
حين ينادي قشنون: باقي عنصر.. كان يتهكم! وهذا ملحوظ بالسماع إلى حديثه مع مسافرين  وقد قال لهم ذات مرة:
“صدام حسين هدد بضرب “قم” لكن الخميني رد عليه وقله إذا ضربت قم باضرب شرجب.. فتراجع صدام خوفا على قاسم سلام!”.
ولكي يرمم قشنون ما أفسده بتهكمه الذي أطاح بقاسم سلام في التربة.. راح يجسم صورة كبيرة للزعيم صدام حسين ونصبها على الكشك الذي ظل من خلاله يبيع الصحف على عناصر الحجرية، وكان هذا الكشك هو الوحيد لبيع الصحف هناك.
خارطة الحجرية البالغة مساحتها نحو “2000 كيلو متر مربع”، ويسكنها نحو مليون نسمة أخذت عناصرها تتكشف وتترسخ في ذهن المعلم قشنون من حيث هو الأكثر علما بأسرار وخفايا عناصر القرى الذين مروا من أمام عينيه في الفرزة.. لدرجة أنه صار خبيراً بفرز العناصر بين حزب وحزب، وفرز العناصر الأمنية عنها من العناصر الحزبية وذلك بلمحة عين..
شأن شرجب البعثية ظلت قدس ناصرية والأعبوس يسارية، على أن اليسار سمة غالبة على مجمل الحجرية..
أما ذبحان التي ينحدر منها قشنون فكانت ليبرالية تبعاً لتوجهات بيت النعمان وأقرب للمحافظة تبعا لتوجهات بيت الكباب، فيما كانت بني يوسف وبني شيبة قد شهدتا نشاطاً لخلايا إخوانية مبكرة..
إنه الفرز والتصنيف الذي أرهق المنطقة وظل يلاحقها بثقله وقيوده حتى اللحظة.. حيث أدت سياسة يسارييها الذي حكموا في الجنوب والقبيلة التي حكمت في الشمال إلى محصلة واحدة في إقصاء النخبة الحجرية التي دعمت أدوات التحديث بحضورها الفاعل في الاسواق اليمنية والعالمية الحرة.
وتتجلى اليوم صراعات داخل معسكر “الشرعية” في الحجرية وتعز.. وتراها  ممتدة إلى حقبة الحرب البارده.
والمؤسف أن ترى شبابا في الحجرية وتعز ككل، محتقنين بما ورثوه من صراعات الأجيال التي عاصرها قشنون منذ أن كان العالم بحروبه وحركاته الإيديولوجية شأنا حجريا.
وقد يتسائل القارى: ما الحكمة من سرد قصة قشنون هذه؟ وما فائدة الإتيان بها من الماضي؟
لا شيء تغير يا ليد.. بل إن الفرز لعناصر الحجرية يجري اليوم على نحو عنيف ومدمر!!
في تقرير صحفي  أعددته مؤخرا  لموقع “يمن مونيتور” حول من يحكم مدينة التربة اليوم؟” تأكدت لي حالة غير مسبوقة من الإحتقان داخل البنيان الإجتماعي المتنوع لمدينة التربة..
بأمارة مو؟
الشباب والشيوخ الذين كانوا قبل سبع سنوات يتفاعلون ويشاركون بحماس مع أعمالي الصحفية التي أجريها هناك.. أمتنعوا اليوم عن المشاركة في التقرير، وأحجموا عن الإدلاء بمعلومات تنسب لهم بشكل مباشر.. خوفا من تعرضهم للمضايقات.
هناك مثلاً، جذور إجتماعية تربط عدد كبير من عائلات التربة وافرادها بالجغرافية التي يسيطر عليها الإنقلابيون، صنعاء وصعدة وذمار وعمران وحجة..
المؤسف للغاية أن هذه الجذور أخذت اليوم تحاكم، ويُقيم المنحدرين منها بوصفهم خلايا حوثية وعفاشية فعلية أو محتملة!
تماما كما يحاكم المنحدرون من الجغرافيا الشافعية بوصفهم “دواعش” فعليين أو محتملين من جانب السلطات التي تسيطر على ما يمكن وصفه بالجغرافيا الزيدية بمعناها الدارج!
وقياساً بما جرى ويجري في الجحملية من تمزيق عميق لنسيج هذا الحي الذي تنوعت به كل اليمن في مدينة تعز، يمكن القول إن التربة ما زالت بعيدة عن هذا السيناريو، لأنها “أي التربة” حاضنة الحجرية، والحجرية هذه “تكارح” وتخاصم لكنها لا تقتل ولا تشرد كعصبية..
عناصرها المذكورة في أقدم الوثائق التاريخية ومنها ياقوت الحموي والهمداني وصفت بأنها لا تدين لملك.. فهي على إختلافها أكثر التصاقاً بالتوجهات والأفكار.
سأدلل لكم هذا في الجزء الثاني من المقال.. الذي سيفسر كيف أن الإيديولوجيات إلى جانب شحة موارد المكان، جعلت العناصر الحجرية تنخرط في جبهات متصارعة تفضي لأن يكونوا هم الضحايا الأوائل من الجانبين.
ركز مع قشنون..
وأظنك ستنجو يا ليد..
*المقال خاص بـ(يمن مونيتور) ويمنع إعادة نشره دون الإشارة إلى مصدره الأصلي. 
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى