“التربة” حاضنة الحجرية.. نموذج للحكم المعقّد في اليمن
المدينة التي شيدها الأتراك وتحصنوا بها هربا من فتك “الملاريا”، ها هي اليوم تنأى بأهلها عن نيران الحرب المشتعلة في محيطها. يمن مونيتور/ خاص/ من معاذ المقطري
“إذا إنتكست مدينة التربة لا سمح الله، ستكون النتيجة وخيمة على محافظة تعز واليمن بأسرها”.
هكذا تحدث عبد الرقيب سيف فتح، وزير الإدارة المحلية ورئيس اللجنة العليا للإغاثة الإنسانية في سياق حديثه لـ”يمن مونيتور” حول من يحكم مدينة التربة اليوم؟ وكيف ينبغي أن يحكمها؟
تتأرجح “التربة، الواقعة جنوب محافظة تعز، اليوم بين الأمان الحذر والفوضى العنيفة، ويحذر الوزير فتح من مغبة انتكاستها وذلك من عدة زوايا مخيفة فيقول:
أولاً هي البنية الإجتماعية التي تجسد خارطة الجمهورية اليمنية، وثانياً هي الرئة التي تتنفس من خلالها تعز في ظل حصار الإنقلابيين المطبق عليها من عدة جهات.
كما أن حاضنة الحجرية وأكبر وأقدم المدن الثانوية التابعة لمحافظة تعز “مدت اليوم شراعها العبقري ملاذا آمنا لنكبات الحرب وموجات النزوح الكبير”، على حد قوله.
يأتي هذا التحذير في ظل أمان ملحوظ تشهده التربة، بفعل نجاح الحملة الأمنية التي حركها اللواء 35 لضبط الأوضاع هناك، الشهر الماضي..
على أن هناك خشية من تكرار أحداث العنف، وهي الأحداث التي كانت أسواق التربة المنتعشة بالحركة على خط الإمداد لتعز مسرحاً لتكرارها خلال العامين الأخيرين.
فكثير ما يحتقن البنيان الإجتماعي المتنوع لمدينة التربة كلما أحكم الجيش الوطني والمقاومة الشعبية قبضتهم الأمنية عليها.. وتنفلت أوضاعها كلما ارتخت هذه القبضة..
كان اسمها “تربة ذبحان” يوم كانت مساحتها 4.4 كيلو متر مربع، وتؤدي وظيفتها كعاصمة لما كان يعرف بقضاء الحجرية بمديرياته الثمان..
واليوم صارت حاضنتها “ذبحان” ملتحمة معها كمدينة تضاعف حجمها، فيما كان آخر تقسيم إداري للجمهورية اليمنية قد أبقاها مركزا لمديرية الشمايتين فقط..
والمدينة التي ذاب فيها الذبحاني والمقطري والحمادي والقدسي والدبعي إلى جانب المداني والعنسي والخولاني وداغز والسلامي والوزير ويعقوب وشكري، تزايد سكانها بمعدلات مرتفعة.
كانوا 10241 نسمة في العام 2004، وأصبحوا 16500نسمة في العام 2014، ثم سرعان ما تضاعفت أعدادهم خلال العامين الأخيرين..
والمدينة التي شيدها الأتراك وتحصنوا بها هربا من فتك “الملاريا” والمقاومين المحليين على حدود “المقاطرة وهيجة العبد”، ها هي اليوم تنأى بأهلها عن نيران الحرب المشتعلة في محيطها، وتمتص هلع “الكاتيوشا” كلما أطلقها عليها الإنقلابيون من مناطق سيطرتهم في الاحكوم وحيفان شرق الحجرية.
ويسبر هذا الإستطلاع عدد من آراء أهلها والمعنيين بشؤونها على نحو يبرز المعادلات الصعبة للعيش والأمن والغوث وأحوال المجتمع، من زواية تحدد بوضوح تام:
من يحكم مدينة التربة اليوم؟.. وكيف ينبغي أن يحكمها؟
هناك ثمة فجوة لا بأس بها بين ما يجب أن يكون وبين ما هو كائن..
ومن الناحية النظرية وربما العملية يحرص وزير الإدارة المحلية، على تحديد الخط الفاصل بين مجال الحماية ومجال الحكم المحلي.. يقول فتح في حديثه لـ”يمن مونيتور”:
“اللواء 35 بقيادة العميد عدنان الحمادي هو المسئول عن حماية التربة بصورة رئيسية”، مشيرا إلى موقع المدينة ضمن نطاق الحماية التي يضطلع بها هذا اللواء وتمتد من منطقة الضباب المتاخمة لمدينة تعز وحتى طور الباحة التابعة لمحافظة لحج.
وأما الحاكم الفعلي لمدينة التربة أو أي مدينة يمنية أخرى فقد حدده بالسلطة المحلية، مشددا على التكامل وليس التعارض بين أدوار الحماية وأدوار الحكم المحلي أو ما يسمى بالسلطة المحلية.
وفيما حثّ “فتح” السلطة المحلية على تجسيد متطلبات اللامركزية في مهامها وبصلاحيات تنهض بالتنمية المحلية في التربة وما جاورها من عزل الحجرية، أكد على أهمية الدور الذي يقوم به الجيش الوطني والمقاومة في ضبط الأوضاع في التربة وما جاورها، داعيا السلطات المحلية والجيش الوطني في آن معا إلى تجسيد قيم وأهداف ثورة “11فبراير” في تعزيز قيم التعايش والإخاء والمحبة في مدينة التربة ومحيطها الكبير والأعلى سكانا في اليمن..
الحديث عن فصل مهام الحماية عن مهام الحكم المحلي، والدعوة إلى تجسيد قيم التعايش الأهلي يشير -ضمن ما يشير- الى وجود أزمات أومشكلات كالتي سيتكثف حديث المشاركين حولها في هذا الإستطلاع..
يتحدث الناشط في مجال حقوق الإنسان وبناء السلام “محفوظ القاسمي” عن حالة فصام بين أدوار الحماية المرتبطة بأعمال السيادة وأدوار الإدارة المحلية بوصفها الحكم المحلي، مشيرا إلى تغول الأولى التي يمثلها الجيش الوطني والمقاومة الشعبية على الثانية التي تمثلها السلطة المحلية ذات الأغلبية المؤتمرية الساحقة..
ويتابع القاسمي حديثه لـ”يمن مونيتور”: “قيادة اللواء وقيادة المحافظة ليسوا قادرين على موازنة الأمور بين تعاملهم مع السلطة المحلية من حيث هي سلطة للحكم المحلي ضمن جسم الدولة، وبين ضرورة التعامل معها كسلطة محلية بصرف النظر عن تشكلها بأغلبية تابعة لحزب المؤتمر الشعبي العام..
وأضاف “هذه الحالة، ولدت حالة من الإحتقان السياسي داخل الأحزاب المتجذرة والفاعلة هناك، وليس في بنية المجتمع كما يشاع بلا أدلة”..
ويسند القاسمي فرضيته بحقيقتين: الأولى في إنحصار الفوضى ودورات العنف المتكررة في الأسواق فقط دون ان تتعداها إلى أعماق المجتمع في الأرياف.. مع أنها تقلق سكان المدينة إلى حد كبير..
الحقيقة الثانية تكمن بميثاق الشرف الذي رتبته الحملة الأمنية الأخيرة للواء 35، وتوافقت عليه كافة الأحزاب والشخصيات الإجتماعية الفاعلة، ومنها حزب المؤتمر.
وأوضح “القاسمي” أنه وبناء على ميثاق الشرف هذا، تم تعيين مدير الأمن الجديد عبد الغفار السوائي، وإبداء التعاون مع وكيل محافظة تعز عبد العزيز الصنوي باعتباره المشرف والمتابع لوظائف وأدوارالسلطة المحلية في التربة والحجرية..
ويؤكد القاسمي وجود حالة مستقرة من الأمان الملحوظ تشهده التربة بعد توقيع المجموعات على ميثاق الشرف، معربا عن خشيته من خرق هذا الميثاق الذي جسد تحضر المنطقة والوعي المدني العالي لأبنائها وفهم اللواء 35 لإحتياجات حاضنته الشعبية والإستجابة المثلى لها.
العنف الذي تكرر هناك!
نعم .. هناك إجماع على نجاح الحملة الأمنية الأخيرة .. ولكن كيف جرت وتكررت أحداث العنف التي سبقت سيطرة هذه الحملة وضبطها للأوضاع في التربة؟
“يارجال عيب عليك.. اللواء 35 أصدر بيان ولم يضرب بيد من حديد”.. هكذا عبر عبد الجبار نعمان الناشط في الحركة الشبابية بالحجرية عن سخطه حيال الطريقة التي يتعامل بها اللواء 35 مع أحداث العنف والفوضى التي تكررت هناك..
وفي حديثه العفوى المباشر لـ”يمن مونيتور” يتابع “نعمان” سرده لتسلل الأحداث :
“شوف ياليد.. كان هناك تواجد لبقايا نظام صالح في التربة، وهم ينتمون لحزب المؤتمر ومارسوا كل اشكال البلطجة، وبعضهم مارسوا البلطجة تحت عبائة المقاومة..
ويرى نعمان أن كل ماتحتاجه التربة هو الحضور القوي للدولة، مشيراً إلى أنها “جحملية أخرى”،وأنها إذا ما امتلكت القوة وخط الامداد لوقفت في وجه المقاومة من أول يوم”، على حد قوله.
وأضاف نعمان “عندما حضرت الحملة الأمنية الأخيرة بقوة هرب الصعاليك تحت ملابس نسائية، “ص.أ” زعيم العصابة مسكوه لابس بالطو”!
حقائق إخماد الحرائق
الحلول الودية التي يبذلها عدنان الحمادي، لإحتواء الأزمات وأحداث العنف يؤيدها الكثيرون وربما غالبية الناس في التربة ومحيطها..
بل ويعارضون أي ميول يبديها “الحمادي” للحلول الأمنية الصرفة، ومنهم منصور الأصبحي، رئيس مركز ريف عدن للإعلام الإجتماعي، الذي يرى أن حملات اللواء “35” زائدة عن الحاجة، بل ويعدها سببا ونتيجة لتكرار العنف..
في حديثه لـ “يمن مونيتور” يسند الأصبحي فرضيته هذه بجملة حقائق:
الحقيقة الأولى يراها في أول أحداث عنف مسلح شهدتها التربة ويعلم الجميع بأنها اندلعت بين مجموعتين تابعتين للجيش الوطني والمقاومة الشعبية، وهو ما أكده عبد الجبار نعمان في حديثه آنفا..
وتكمن الحقيقة الثانية بما يصفه الأصبحي، بأوسع وأفظع دورة عنف مسلحة شهدتها التربة قبل خمسة أشهر..
يومها كما يعلم القاصي والداني.. هبت قبائل الصبيحة بسلاحها وحاصرت مقر المديرية، وكان يحركها ردة فعل عنيفة لمقتل شاب صبيحي على يد شاب آخر ينسب للواء “35”..
اللآفت كما يقول الأصبحي هو أن الشاب الصبيحي”ابو عيون” كان يبيع القات في التربة حين لقي حتفه على يد “ش.ص” وكان هذا الأخير على رأس حملة أمنية خرجت من اللواء وتوترت في سلوكها مع الناس تحت ضغط حزبي يطالبه بالحزم وإبداء قوة أكبر في السيطرة على الأوضاع..
على أن هناك حقيقة ثالثة يعلمها الناس في التربة والحجرية ويعتزون بها..حقيقة أنهم تحرروا وحرروا مدينتهم وقراهم في الشمايتين وهيجة العبد قبل إنطلاق عاصفة الحزم وقبل تشكل الجيش الوطني والمقاومة الشعبية.
في 24 مارس 2015 هب أهالي التربة والقرى المحيطة بها في الشمايتين والمقاطرة بثورة سلمية عارمة أجبرت مليشيا الحوثي وقوات صالح على مغادرة التربة والمنطقة.
يومها سقط العديد من القتلى والجرحى في صفوف المنتفضين العزل، لكنهم حرروا المنطقة.