هكذا تبدو تعز منذ جاءت المليشيا بالموت الزؤام، تكلفة الكرامة باهظة، بالتوازي مع نصر المدينة، هناك الكثير من الأوجاع، الأقدم يواسي القديم، والقديم يواسي الجديد. يوم السبت 27 أغسطس: خالتي في منزلنا، باتت عندنا بعض الليالي لتؤانس أمي وتواسيها باستشهاد أخي محمد.
يوم الأحد 20 نوفمبر: أمي تبيت في منزل خالتي لتؤانسها وتواسيها باستشهاد ابن ابنها الذي تدللـه كثيرًا، حسام.
هكذا تبدو تعز منذ جاءت المليشيا بالموت الزؤام، تكلفة الكرامة باهظة، بالتوازي مع نصر المدينة، هناك الكثير من الأوجاع، الأقدم يواسي القديم، والقديم يواسي الجديد.
وما بين أغسطس ونوفمبر، ألتقي بجمال بن خالتي، بين الفينة والأخرى، يحدثني كيف أبكيته بما كتبت عن أخي، غير أني اليوم لم أتمكن من إخبار جمال بكلمة عن ولده، أنا أبكي على محمد وحسام، وقد جازف جمال واجتاز خط الحصار الملشاوي ليتأكد أن ولده قد استشهد فعلًا.
كان حسام طفلًا حين دخلت المدينة لأدرس الثانوية، لم ترهبني صرامة العملية التعليمية في المدينة، كنت أجتهد وأحصد العلامات الجيدة، أذاكر وأحيانًا أحمل حسام إلى منزل خالي حيث سكنت، كنا في حارة الروضة، بعد نصف سنة، دبت الرتابة في الحياة الجديدة، المدينة كانت ملولة، استنزفت أبي ولا أريد المزيد، تركت حسام طفلًا وتركت المدرسة عائدًا إلى الريف.
حسام يكبر رويدًا رويدًا، يخرج إلى القرية في الإجازات وأيام الأعياد، تُدمغ طباعه بالدماثة والخجل، يُطوّق حسام بالدلال، لا يغتسل إلا بالماء الصالح للشرب. حين يخرج من المدينة تدللـه خالتي، حفيدها البار أو ابنها الثالث، له بطانيته الخاصة التي يجلس عليها، دهنه، عطره، سلوكه الخجول مع الناس، إنه أأنق اليافعين في الريف والمدينة على السواء، إنه أول إنسان يلتقي فيه جمال مظهره بجمال روحه. وبأخلاقه الرفيعة.
لكم أن تتخيلوا حب أمه له، جرحها عليه. مع ذلك إيمانها الذي سمح لها بالتسامح مع قناعة حسام بحمل البندقية. المسألة أكبر من رغبة فتى ـ في أوج يفاعته ـ من أن يحصل على بندقية، كان جده قد طرح له خيارًا مغرياً: سنبيع الماشية وغلة القات ونشتري لك بندقية. لكن قضية حسام أكبر من ذلك.
أي إيمان وقر بقلبه، أية قضية جعلت الأنيق ينحي عادته بالاغتسال بأعذب الماء ليتعفر في تراب المتارس.
عاد إلى المدينة، كان يجلس مع أخي محمد ورفقته، تنهمر القذائف قريبًا منهم، لا ينهضون.
استشهد أخي محمد يوم سبت، أيام الجمع يزوره حسام ليقرأ عليه الفاتحة،
صار حسام كبيرًا جدًا. كبيرًا حد المفاجأة، لم يعد طفلًا كما تركته. كان يتأهب للخروج من المدرسة، لولا أن المليشيا لم تأت، ولم تلق القذائف على المدارس. المدرسة التي آوتني نصف سنة وتركتها لحسام الأريب.
يوم أحد يستشهد حسام. تنتكئ الجراح. أُرغم على تملّي ملامح الآخرين، من كان حاضرًا اليوم قد يكون غائبًا غدًا.
في تعز، لا تتفرس ملامح الآخرين لتهتدي إلى علائم الشجاعة من الوجوه التي لفحتها الشمس.. في تعز، لا تحلل تقولات الأفراد الذين تلتقي بهم لتشتف منهم الجراءة والإقدام.. في تعز لا تنظر إلى الفعال السابقة والطباع التي يتحلى بها فرد من الأفراد، لتحكم بموجبها عليه. الحرب أظهرت مالم يكن يتوقعه أحد. في تعز ستتفاجأ بإقدام اليافع الذي عرفته خجولًا. وفي تعز ستتفاجأ بالذي يغتسل يوميًا ويعش في أناقة مستدامة، وقد تعفر بتراب المتارس، وبدلًا من تضوع عطره، تفوح منه رائحة قذائف سقطت جواره قبل قليل. هذا إذا لم تصبه شظايا ويغادر مثل حسام.
*من حائط الكاتب على (فيسبوك)