خطوات عملية نحو المدنية (3)
خطوات عملية نحو المدنية (3)
ج: على صعيد الخطاب الديني
في البداية لا بد أن أنبه إلى أن المسجد عندنا لا يشابه الكنيسة في أوروبا في زمن صراعها مع الدولة، فالمساجد عندنا لا تتبع سلطة دينية هرمية كما كانت الكنائس في أوروبا، ومن ثم كانت سلطة الكنيسة أقوى من سلطة المسجد، فمن خلال الكنيسة كانت تُحكم الدولة في بعض مراحلها أو تتقاسم السلطة مع السلطة الزمنية السياسية، وإذا كانت المساجد مختلفة من هذه الزاوية فهذا يعني أننا يمكن أن نتجاوز مشكلاتنا بشكل أسرع.
إذا أردنا أن نتحدث عن سلطة ما للمسجد فهي سلطة الخطاب الديني ذاته ومن هنا جاء حديثي عن الخطاب الإسلامي مباشرة، لأنه خطاب يمارس من منابر المساجد ومن غيرها، خطاب يحمل كثيرا من المشكلات التي أوقعتنا في صراع طائفي ومذهبي وعقائدي يمكننا تجاوزه إذا حررنا ذلك الخطاب من أغلال الجمود وصار متوافقا مع مطالب الحياة العصرية المعقدة، إننا بحاجة لقراءة تجديدية على مستوى المنهج في التعامل مع النص الديني، وقراءة تجديدية للأفكار والمفاهيم الذي نشأت عن ذلك الخطاب، والتي أنتجت ذلك الجمود والتراجع والتخلف والصراع مع الداخل الإسلامي والخارج غير الإسلامي.
ليس مجالنا هنا البحث عن كل تلك المشكلات، كما إن هذه السطور لن تكفي لذكر مشكلات الخطاب الإسلامي، ومن أراد فالمؤلفات في ذلك كثيرة ويمكن العودة إليها، وما يهمنا هنا هو محاولة الوقوف على أهم الأفكار والمفاهيم التي يمكن أن تقف أمام فكرة الدولة المدنية، الأفكار التي لا زالت سببا في الصراعات وإشعال الحروب والتي لازالت تغذي التطرف والغلو، تلك الأفكار التي لا بد وأن تقرأ قراءة مغايرة لما جاء في التراث حتى نستطيع جميعا أن نعيش بحرية وسلام، إنها بحاجة لقراءة جديدة تزيل منها المفاهيم المغلوطة التي تتعارض مع مقاصد الإسلام، وقد قُدّمت فيها قراءات ومراجعات تجديدية لكثير من المفكرين استطاعت أن تنفذ إلى عقل وقلب بعض الشباب الإسلامي وبقي أن تصل للبعض الآخر.
عشرة مفاهيم بارزة في خطاب الجماعات الإسلامية وخاصة تلك التي تتبنى العنف في مشروعها، أظن أن لهذه الأفكار الأولوية على غيرها في المراجعة، وكنت قد قدمت لها مراجعات وقراءة جديدة تتوافق مع مقاصد الإسلام وتحقق المقصود في التعايش بين أبناء المجتمع المختلف عقائديا، وسأكتفي بذكرها هنا إجمالا:
• مفهوما الخلافة والإمامة: وهما من أخطر المفاهيم السياسية الدينية وتكمن وراءهما مشكلات عدة، فهما أولا مفهومان غير واضحين في أذهان كثير ممن يؤمن بهما أو ينادي بهما، كما يستحيل تطبيقهما بتلك الطريقة الساذجة التي في أذهان القلة منهم، والدولة الحديثة اليوم قفزت كثيرا على ذلك التصور البدائي لشكل الدولة، فصرنا بحاجة لترك مثل هذه المفاهيم التي تزيد وتشعل الصراع الطائفي.
• مفهوم الولاء والبراء: ما تعريفهما وما سببهما ولمن وكيف يكون الولاء والبراء؟
• مفهوم الجهاد والقتال: ما الفرق بينهما ومتى وأين يكون كل منهما؟ وما هي مجالات كل منهما؟
• مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ما هو تعريف كل من المنكر والمعروف؟ وما هي الأدوات والأساليب التي تحقق ذلك دون تدخل في حرية الآخرين؟
• مفهوم الكفر والتكفير: على من أطلق القرآن الكفر؟ وهل من حق المسلم تكفير أحد من الناس أم أن ذلك لله وحده، كونه العالم بما تخفي الأنفس؟ ما هي مشكلات التكفير وكيف يمكن معالجتها؟
• مفهوم الشهادة والشهيد: من هو الشهيد ومتى يكون كذلك؟ لقد صار هذا المفهوم إحدى أدوات التحشيد للقتال الطائفي والمذهبي وآن أن يراجع ويتجاوز عن صورته تلك التي يتم بها التحشيد اليوم.
• إعادة فهم نظرية العقوبات: ما هي فلسفة العقوبات ومتى تتحقق وهل المطلوب الأخذ بحرفيتها أم بمقاصدها بحيث تتناسب وعقوبات اليوم؟ ويأتي على رأس العقوبات التي بحاجة إلى مراجعة ما يسموه حد الردة، ذلك أنها عقوبة سياسية أنتجتها صراعات سياسية لتثبيت الحكم، ولا علاقة لها بالدين بل إنها تخالف نصوص الدين مخالفة واضحة.
• إعادة دراسة مقاصد الشريعة، بحيث تنطلق من الآيات المعللة في الخلق وأسباب نزول الكتب وإرسال الرسل، بدل انطلاقها من العقوبات التي جعلت من مقاصد الدين حماية الدين ذاته في تناقض واضح كان سببه اعتمادهم حد الردة الذي لم ينص عليه القرآن.
• إعادة النظر في كثير من الروايات التي تخالف القرآن الكريم فيما يخص التعامل مع الآخر، بل وإعادة النظر في كيفية التعامل مع تلك الروايات وهل هي جزء من الدين أم لا؟
• إعادة النظر في تنزيل مفهوم الربا على المعاملات البنكية اليوم، كونه لا يحقق صورة الربا التي ذكرها القرآن.. لقد صارت المعاملات الاقتصادية بأكملها مرتبطة بالبنوك، وصار من الحرج الشديد الاستمرار على الخطاب السائد الذي ينظر للبنوك على أنها حرب لله ورسوله!!
تلك هي أهم المفاهيم التي تحتاج لمراجعة أولية في الخطاب الإسلامي، يتماشى معه مراجعات لتطوير خطاب عقلاني يتناسب وعالمية الإسلام ويخاطب كل أجناس البشرية بدل ذلك الخطاب المحلي المليء بالكثير من التناقضات.
وبهذا المقال أصل إلى نهاية هذه السلسلة من علاقة العلمانية بالإسلام، طرحت فيها أسباب الصراع العلماني الإسلامي حول مفهوم العلمانية، ثم ذكرت تعريف العلمانية، ثم تحدثت عن سياقها التاريخي، ثم انتقلت لتعريف الإسلام، ثم وقفت على أحد أهم التعريفات للعلمانية وقارنت أركانه الثلاثة بالفكر الإسلامي ووصلت أنه لا تناقض بينهما، ثم اخترت مصطلح المدنية على العلمانية في حالات بلادنا وسياق مشكلاتها، ثم ختمت بالخطوات العملية لمعالجة مشكلة صراع الديني بالسياسي، على صعيد الدستور والقانون وعلى صعيد التعليم الدراسي وعلى صعيد الخطاب الديني.