كتابات خاصة

هل تسقط ضربات واشنطن الحوثي؟

في اليمن، لا شيء يحدث كما يبدو، ولا شيء يُقال كما هو. فعندما تقصف واشنطن مواقع الحوثيين في صعدة والحديدة ومناطق يمنية خاضعة لسيطرة الجماعة، لا يعني ذلك بالضرورة أنها تسعى إلى إسقاطهم، بل ربما تريد فقط أن تقول إنها هنا.

من السهل أن تُغرم بالأرقام، أن تتباهى بعدد الأهداف التي دُمّرت، والمخازن التي سُحقت، والمواقع التي جرى تحييدها، لكن من الصعب أن تفهم ما لا يُقال. الحوثي ليس مجرد هدف عسكري، وليس جسماً يمكنك شطبه من الجو، ولا حفرة تقصفها فتنتهي القصة. الحوثي مشروع زمني، منظومة نمت على أنقاض الدولة، وتربت في حضن الفشل، وتغذت من غباء خصومها أكثر من دعم طهران.

كل صاروخ يسقط على صعدة يلد قصيدة تلقى في صنعاء، وكل غارة أمريكية تُترجم في وسائل إعلام الجماعة على أنها شهادة جديدة على المظلومية. هذه جماعة تتقن تحويل القصف إلى سرد، وتلك هي خطورتها.

قبل أيام، سألني صديق عربي: “هل تعتقد أن أمريكا ستسقط الحوثي؟”

أجبته: “الحوثي لا يسقط بصاروخ، يسقط حين تزاحمه على الأرض، حين يرى جنوداً يطرقون أبواب صعدة بعلم الجمهورية، لا حين تنهال عليه الضربات من السماء.”

الحوثي ليس هشًّا؛ لقد بُني من خيبات الآخرين. هو أكثر من ميليشيا، هو عقل جماعي أُعيد تشكيله، منظومة متكاملة تعيش على هامش الدولة وتمتص دمها. لا أحد يجند الأطفال كما يفعل، ولا أحد يستثمر في القتال كما يستثمر في الزامل، ولا أحد يحول الجوامع إلى منابر تعبئة والمدارس إلى مراكز تفخيخ ذهني كما فعل ويفعل. لكنه، رغم هذه البنية، يظل كيانًا منفصلاً عن المجتمع، جسماً فوقياً لا يندمج في الناس، ولا يملك روابط حقيقية معهم. وهذه العلاقة الصفرية كانت دائماً نقطة سقوط لا مفر منها، مهما تأخر الوقت.

الضربات تؤلم الجماعة وتحدّ من تحركاتها، لكنها لن تقتلها. الجماعة مؤمنة، لا بالمعنى الروحي، بل بالاستراتيجية. لا تخاف من الخسائر، بل من فقدان الحاضنة. خصومها لا يثقون ببعضهم، ولا يجرؤون على دخول المعركة بقرار وطني مستقل، لهذا تنام الجماعة مطمئنة رغم الضربات الأمريكية.

الحوثي لا يملك نفطًا، لكنه يسيطر على كل مورد غير نفطي: الضرائب، الجمارك، الزكاة، التعليم، التجارة، الأوقاف، كل شيء. الدولة الحقيقية موجودة في يده، أما الشرعية فتجلس في الفنادق وتنتظر دعماً لن يأتي.

في الداخل، أعادت الجماعة تعريف كل شيء بهويتها الخاصة، فلم تعد الوظيفة العامة مرتبطة بالقانون، بل بالمشرف. ذلك الذي لا يحمل صفة رسمية، لكنه الدولة كلها. هو الأمن، والتموين، والقضاء، والجباية. هو الذي يقيم الموظف لا على أساس أدائه، بل على حجم ما ضخه إلى الجبهة.

وفي الإعلام؟ صنع الحوثي آلة بسيطة لكنها مذهلة، يتحدث إلى الناس بلغتهم، زوامل وخطاب شعبي صارخ، يزرع فكرة واحدة: نحن وحدنا نقاتل، والآخرون يتآمرون.

وحين اندلعت حرب غزة، تحرك بحساب. أطلق تهديدات وصواريخ رمزية، ونجح في استحضار صورته كلاعب إقليمي يتفاعل مع القضايا الكبرى، بينما خصومه التزموا الصمت أو لجأوا إلى الخطاب الدبلوماسي. وفي بلد فقير مثقل بالأزمات، لا يزال يحتفظ برصيد وجداني تجاه فلسطين، بدت تلك التحركات محسوبة بعناية وأثمرت له حضورًا في الوعي العام العربي واليمني بشكل خاص.

رغم كل ذلك، هل يعني هذا أنه لا يُهزم؟ ليس بالضرورة. الحوثي قد يصمد أمام الضربات الجوية، لكنه يضعف أمام زحف بري حقيقي. فالجغرافيا التي تحصنه قد تتحول إلى مأزق يقيده، والولاء الذي يعززه قد يتبدد في لحظة. أما المقاتل الذي شبّ على فكرة الاستشهاد، فقد يتسلل إليه الملل إذا طال الطريق بلا نهاية. الحوثي مشروع موت لا صلة له بالحياة، وكل من لا يحتمل الحياة لا يمكن أن يصمد أمامها طويلاً.

ما الذي يضعفه فعلاً؟

حين يرى القبيلة تنسحب، حين تكتشف القاعدة الاجتماعية أنها مجرد خزان مقاتلين لجماعة لا تمنحهم خبزًا ولا أملاً، حين يفقد سطوته على المدارس، وعلى الجوامع، وعلى الموظف الذي لم يعد يجد ما يأكله.

وهل ستفعل أمريكا؟

أمريكا لا تريد إسقاط الحوثي، فهي تفاوض إيران على طاولة أخرى، والحوثي مجرد ورقة. حين تهدأ المضائق وتهدأ السفن، قد تنتهي الغارات.

الضربات وحدها لا تصنع نصرًا، النصر يصنعه الداخل، يصنعه يمنيون قرروا أن يستعيدوا بلدهم، لا من الحوثي فقط، بل من الفساد، من الشتات، من الفشل، ومن البلادة التي تحكم الرياض وأبوظبي والقاهرة باسم اليمن.

الضربات ستستمر، وربما تصيب، وربما تقتل، لكنها لن تُسقط الحوثي قولا واحدًا. الذي يُسقط الحوثي ليس الصاروخ، بل اللحظة التي يتوحد فيها خصومه، ويكفون عن الرهان على غيرهم. والحوثي سيسقط، لا لضعف سلاحه، بل لأن مشروعه بلا حياة، وعلاقته بالناس بلا جذور، وهذا كافٍ وحده.

الضربات الأمريكية الأخيرة، وإن بدت موجعة، ليست إلا فصلًا من مسرحية متكررة. تستهدف قيادات، تدمر مخازن، وتلتقط صورًا بالأقمار الصناعية لتعرض في مؤتمرات البنتاغون. لكن في الجبال، تحت الأرض، في أنفاق حُفرت خلال عشر سنوات من القتال، تعيد الجماعة ترتيب صفوفها.

هذه ليست ميليشيا تقليدية تُشلّ إذا فقدت قائدًا، بل هي جماعة أيديولوجية تمتلك سردية عابرة للزمن. منصات الصواريخ على عجلات، خطوط الإمداد موزعة، معامل التصنيع مقسمة، كما ذكر المتخصص في شؤون الجماعة عدنان الجبرني.

لكن المفارقة الكبرى لا تكمن هنا، بل في أن الضربات، بدلًا من أن تزعزع الجماعة، تفضح خصومها. الشرعية، أو ما تبقى منها، تُركت خلف ستائر الفنادق، تنتظر متى يتغير المزاج الدولي، بدل أن تبني مشروعًا. عشر سنوات ولم تتوحد جيوشها، كل فصيل يحفر خندقه الخاص، ويبني جيشه الخاص. كل فصيل يحفر خندقه الخاص، ويبني جيشه الخاص. مأرب، عدن، الساحل، حضرموت، كل واحدة دولة مصغرة داخل اللادولة.

لماذا لم تتوحد؟ لأن الجميع يريد النصر دون أن يتنازل. الجميع يريد أن يكتب تاريخه وحده، أن يظهر في الصورة النهائية كمن قاد المعركة. الحوثي يعرف هذا، ويراهن عليه. لهذا لا يخشى السقوط، بل ينتظر تمزق خصومه أكثر.

المجلس الرئاسي؟ عاجز. لا يمتلك قرار الحرب ولا السلام. يعيش على هامش السياسة، يدير الوقت، لا الدولة. كل طرف فيه يسعى خلف مكاسبه، لا خلف خلاص اليمن. والنتيجة؟ حوثي واحد في صنعاء، وسبعة رؤوس في الرياض، لا أحد منها قادر على اتخاذ قرار موحد.

في هذه المعادلة المختلة، لا شيء يسقط الحوثي أكثر من اتفاق يمني داخلي، تتوحد فيه البنادق خلف مشروع دولة، لا مشروع غنيمة. لا شيء يخيف الجماعة أكثر من صوت يخرج من الأرض، من جبل مأرب أو سهل شبوة، يقول: كفى.

الجماعة تتقن الحرب، لكنها لا تعرف كيف تحكم. سيطرت على الموارد، لكنها فشلت في توفير الرغيف. هيمنت على المؤسسات، لكنها فشلت في إدارة الناس. صوت التذمر يتصاعد في صعدة، في إب، في ذمار. لكنها تستثمر في الخوف، وفي غياب البديل. هي لا تنتصر، بل تعيش على عجز من يُفترض أنهم البديل.

وإيران؟ ليست المشكلة فقط في أنها تدعم الجماعة، بل في أنها علمتها كيف تدير المعركة طويلة النفس. لا ترسل فقط السلاح، بل ترسل عقلية: كيف تبني شبكة، كيف تدير منطقة بدون مؤسسات، كيف تراوغ المجتمع الدولي، كيف تزرع ممثلين في المؤتمرات الحقوقية.

في لحظة ما، سيتوقف القصف. ستغلق السماء. وستبقى الأرض. من يملك الأرض؟ من يتحكم بالناس؟ من لديه مشروع قابل للحياة؟ هذه هي الأسئلة الحقيقية.

أما الحوثي، فهو ليس أعجوبة، بل فراغ، تمتلئ به المساحات التي تركها الآخرون. وكل يوم لا تتحرك فيه جيوش الجمهورية باتجاه صنعاء، هو يوم جديد في عمر الجماعة. لكن سقوطه قادم لا محالة، لأن الموت لا يحكم الحياة طويلاً.

الخلاصة؟

صوت الداخل هو من يسقط الحوثي، لا طنين الخارج.

هو قرار وطني، لا بيان خارجي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى