كتابات خاصة

زينب

أحمد الرافعي

 ليس عبثاً إذاً أنك أسميتني (زينب).. ألم أقل لك إن الكون يساندني بالأجوبة في أوقات الحيرة وإن لطف الإله يرافق كل قلبٍ مقهور. زينب، هي كل فتاة تنتظر عودة والدها المختطف ذات مساء..
أبي: إذا طالعت هذه الرسالة، فإنها ستكون أولى رسائلي إليك.  
خطتها أناملي في وقت ولادة يومٍ جديد..
ما زال الصباح يدغدغ قلبي الغضُّ وينشر البهجة في أرجاء نفسي الحالمة بالحياة 
كان آخر لقائي بك  ذات صبح!
صبحٌ وحيد أوصلَتني فيه ابتسامتُكَ إلى باب المدرسة، وضلَّ ذلك الصباح حتى اليوم يبحث عن ليلٍ تعود فيه إليَّ.
نعدُّ أيام غيابك ونُحصي كل يومٍ الساعات والدقائق والثواني، بل وخفقات القلب التي تمر علينا وأنت وراء القضبان! 
وحين يصلنا أنباء عن قرب الافراج:
تنتعش قلوبنا التواقة إلى اللُّقيا من ابتسامة أمي التي يطلي شفتيها الأمل.
أيامٌ وعبدالله وأنا وأمي نتوسد الأمل في ليالينا ثم يتكشَّفُ الزيف.
ويغدو خبر الافراجِ واحداً من تفاصيل عالم اليوم الذي يَعُجُّ بالكذب..
 قلت لي يوماً: إن الكذب سلوك الجبناء، وها أنا اشمُّ روائحه هذه الأيام تفوح من كل الأنحاء!
عقلي لا يملَّ من الأسئلة التي لا أبوح بها إلا لنفسي.. أو والدتي التي لا يصل إليها إلا القليل منها.
أُحسُّ بها يا أبتي.
وأصدقك القول إني تركت طرح الاسئلة عليها بعد مرتين جاءني فيهما الجواب: بكاءً وانتحاباً وطوقتني بذراعيها الحنونة.
ومنذ ذلك اليوم توقفت عن السؤال وبدأت أحدس الجواب.
وإن حار عقلي عن الجواب، وضعت السؤال في سلة التأجيل حتى تعود..
ولا أظنك تسأمُ من أسئلتي.. وقد قلت لي فيما مضى: لا تؤمني بكل ماهو سائد، اطرحي الأسئلة ويوماً ما ستصلين إلى الجواب.
حسناً يا أبي، لا أدري أين أنت الآن!
ويبدوا أن والدتي لا تنوي أن تكشف عني هذا المجهول.
وبعد بكاءٍ مرير اسألها فيه: لماذا لا تأخذينني إليه؟
تقول: لايريد أبوك أن يراكِ باكية فيتكسر عزمه
(الموت خيرٌ من شماتة العدو)
عرفت منها أنهم يسمحون بالزيارة وراء حواجز حديدية ووجود رقيبين أو ثلاثه ولا يسمحون بالإحتضان أو المصافحة..
حسناً، إذا كانت هذه يسمونها زيارة، فلمَ امنحهم شرف الشعور بالفضل!
وهل تروي تلك النظرة المحاصرة بالرقباء من وراء حواجز حديدية ظمأ قلبي الذي يعوي الشوق من جهاته الأربع؟!
حسناً يا والدي: تريد أن تعرف أخباري؟
لم أعدْ أخاف من الظلام.
أعلم أنك تضحك، وأنت تتذكر صعودي المُسرع مغمضة العينين سلالم البيت عند مجيئ الليل.
كن مطمئناً يا أبي.. تمرَّسَ قلبي على الظلام!
وهل الظلام هو هذا الذي يأتي بعد الغروب ويفتح حضنه لآهاتنا ودموعنا، ويسامرنا حتى الفجر؟!
هذا الظلام يا أبتاه يتفجر قلبه بالشفقة التي فقد ومضة منها بعض البشر..
قالت لي والدتي الَّا اكتب لك ما يبكيك أو يُوهن من عزيمتك
ولم أعدها بشيئ..أتدري لماذا؟
آمنا أنت وأنا سوياً أن الكلام الصادق ينفذ في سماوات القلب.
أفتقدك، وأحنُّ إليك وتُدفئني في ليالي الشتاء ذكرى ضحكاتك الصافية.
هل أبكت هذه الكلمات؟!
مهلاً:
ماذا لو قلت لك إنها لحظاتنا البشرية تطفو حين يضيق الصدر، ويجثم الشوق على القلب.
نبكي ليغتسل الفؤاد، ويسقي ماءُ العين بذرات العزم والصبر والشموخ.
(قطراتٌ) ننضحها على القلب حين يَهمُّ بالنعاس!
في كل ثلاثاء نخرج مع رابطة أهالي المختطفين تحت هجير الشموس نرفع صوركم.
لك صورة مضيئة وابتسامةٌ يفترُّ عنها أكوان من النقاء..
ستبتسم  حين تعرف أن جميلة مازحتني يوماً: بأن لك وجه يشبه نجوم السينما.. آه ياجميلة ليتكِ رأيتي قلب والدي. 
لكني لم أخبرك عن جميلة.. (وبالمناسبة ينتظرك الكثير لأخبرك عنه)!
جميلة، فتاة لطيفة في مثل سِنِّي.. والدها مختطف.
مثلنا هم يا أبي؛ جاءوا من ريمه إلى صنعاء، قلبها أخضر كوديان (الجبين)، وعلى بساطتها تعلمت منها أن الاستهانة بتبجح اللصوص والتسلح بالابتسامة الهازئة.
قالت إنها زارت أباها وحين ذرفت الدموع بين يديه، قال لها: تذكري لماذا اسميتك جميلة.
شرحت لي أن جميلة فتاة جزائرية قاومت الاحتلال وسجنتها سلطات الاحتلال الفرنسي، وأنها علقت صورتها في غرفتها.
(جميلة بو حيرد).. الفتاة التي كانت تهتف في طوابير الصباح: المجد للجزائر.
قالت لي أيضاً: إن ابيها في سنواته الماضية قبل سجنه كان يقول لها: اسماؤنا تكشف لنا الطريق.
 ليس عبثاً إذاً أنك أسميتني (زينب).. ألم أقل لك إن الكون يساندني بالأجوبة في أوقات الحيرة وإن لطف الإله يرافق كل قلبٍ مقهور.
استغرق اكتشاف السر ليلة كامله اتقلب فيها في مواقع الانترنت.
(زينب)..
أيام حياتها التي كتبتها زينب الغزالي مفزعة يا والدي لكن إن حصل أن احتملت انثى كل ذلك العذاب، فنحن قادرون حتماً على الإحتمال.
سأقول لك سراً لم أبُح به لوالدتي :لأول مره أتذوق اسمي.
كنت أجده عتيقا!ً غير أنه اليوم صار لذيذاً ويدعو للفخر..
أبي: هل يصلك الكعك الذي تصنعه يداي؟
في غيابك تعلمت صناعة الكعك، وبعد محاولات حثيثة أفسدت فيها العديد منه، احترفت الصنعة..
لأجلك يا والدي تعلمتُّ.. من أجل أن يصلك شيئٌ مني..
صنعته يداي لك أنت القابع وراء القضبان بقلبك الحر ووعيك الصلب وضميرك الذي لا يعرف طريق الأسواق.
تريد أن تعرف شيئاً عن (أخي عبدالله)؟!
عبدالله الذي كنت تهدهده في احتضانة ما قبل النوم:
(دو يادو يا ليتني جولبه    دودو يادو.. وارعي جمال اخوتيظ)
لم يعد يقبلها بصوت غير صوتك؛ يحفظ في ذاكرته صوتك الحاني الذي يعشقه الليل، وتنام من دفئه الملائكة.
لا بأس عليك يا والدي.. 
ننتظرك نسراً اشتاقته أرجاء السماء.. ولم يعبث به الغياب أو ضيق القفص.
وإلى تلك اللحظة، امنحني رضاك فقد منحتك كل الحب.
زينب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى