آراء ومواقف

وجع الطائفية في اليمن

حسن العديني

إنك لا تسبح في النهر مرتين. كذلك قال «هير قليطس» فيلسوف الإغريق السابق للثلاثة الكبار، سقراط وأفلاطون وأرسطو. لكن أحداً، فيما أظن، لم يبتدع قولاً مأثوراً عن أن بعض الناس يمكن أن يخوضوا في الوحل مرتين، وثلاثاً، وعشراً.
إنك لا تسبح في النهر مرتين. كذلك قال «هير قليطس» فيلسوف الإغريق السابق للثلاثة الكبار، سقراط وأفلاطون وأرسطو. لكن أحداً، فيما أظن، لم يبتدع قولاً مأثوراً عن أن بعض الناس يمكن أن يخوضوا في الوحل مرتين، وثلاثاً، وعشراً.
الحال في اليمن شاهد على تكرار التمرغ في وحل الطائفية وبتغذية خارجية هذه المرة ثم مع تطور مذهل في أدوات القتال ووسائل الدعاية حتى بات العنف أشد فتكاً وأعظم هولاً. إن تاريخ اليمن حافل بفنون الإبادة التي مارسها الأئمة من منطلق طائفي ومذهبي بحت. ولم تنته الحروب الطائفية في اليمن برحيل الأئمة، ذلك أن ألف سنة من ولعهم بتمزيق النسيج الاجتماعي لم تنجح سنوات أو عقود في محو آثارها. فمنذ ذلك الغياب انزلقت البلاد إلى العنف الطائفي بقرار من بعض اليمنيين في بعض الأوقات وبإرادة خارجية في أوقات ثانية، إيرانية على وجه التحديد.
دفعتني للخوض في هذا ليلة قاهرية أيقظت ذكرى حدث فجر حرباً طائفية في اليمن. ففي الخامس من نوفمبر الجاري احتفل رجل أعمال يمني بزفاف نجله في فندق وسط العاصمة المصرية شوهدت فيه يمن أخرى غير تلك التي تنقلها الصحف والقنوات التلفزيونية.
ليست الإثارة في هذا التضاد بين المأساة في عموم اليمن والملهاة حيث شهدت الحفل، وإنما لأن الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني هو انقلاب أعقبته حرب طائفية في اليمن منذ تسع وأربعين سنة، ولأن بعض الذين اشتركوا فيها في شبابهم يقودون مثلها اليوم بينما يقفون على أعتاب الموت. ولأن نوفمبر في تلك السنة وضع بصمة في اليمن بشطريه مازال لها آثار ولها ظلال.
وكانت اليمن في مطلع الستينات تعيش حربين، واحدة في الشمال بين الجمهوريين الذين أقصوا الإمام 1962 ومناصري الإمام الساعين إلى إعادته إلى العرش. وثانية في الجنوب شنها فدائيون على القوات البريطانية. والحق أن الحرب في عدن وحول صنعاء مثلت معركة واحدة، إذ إن الفدائيين في الجنوب كانوا ينحدرون من قرى وبلدات اليمن كلها وكذلك من قاتلوا الإمامة في الشمال. وكان المكافحون ضد الاستعمار في الجنوب يتلقون التدريب في معسكرات بالشمال أو في مصر، الداعم والراعي، ومنهما يحصلون على السلاح. ومن أسِف أن المعسكر الجمهوري في صنعاء انقسم على نفسه إلى كتلة راديكالية يقودها الرئيس عبد الله السلال المدعوم من القيادة المصرية وكتلة محافظة تزعمها عبدالرحمن الإرياني وكانت تعارض الوجود المصري وتعمل على التفاهم مع الملكيين إذا وافقوا على استثناء الأسرة الملكية (بيت حميد الدين) من المصالحة. ولم يختلف الأمر في الجنوب، إذ انقسمت الجبهة التي تقود الكفاح المسلح إلى اثنتين. جبهة التحرير وجناحها العسكري التنظيم الشعبي للقوى الثورية والجبهة القومية وعصبها الرئيسي الفرع اليمني لحركة القوميين العرب الخارج من العباءة المصرية إلى التحالف مع السوفييت ودول المعسكر الاشتراكي.
في يونيو 1967 حصلت كارثة الحرب والهزيمة واضطرت مصر إلى سحب قواتها من اليمن، ولم تمض خمسة أشهر حتى وقع حدثان سيطبعان مسيرة البلد حتى هذه الساعة. ففي 5 نوفمبر قام تحالف من شيوخ القبائل والإخوان المسلمين وحزب البعث وضباط متعاطفين مع حركة القوميين العرب بإطاحة الرئيس السلال وجماعته، وفي الثلاثين منه سلمت بريطانيا استقلال عدن والجمعيات الجنوبية للجبهة القومية. وساعد خروج القوات المصرية وضرب الجناح المتصلب في الصف الجمهوري على اشتداد بأس القوات الموالية للإمام، واحتاج الجيش حديث النشأة إلى إسناد عسكري فتأسست المقاومة الشعبية من شباب تركوا مقاعد الدراسة ومكاتب الوظيفة ليحملوا السلاح. ولعبت قوى اليسار بكل ألوانها دوراً قوياً في الحشد والتعبئة والتنظيم، ومن غمرة الحرب نبتت قوة بازغة عززت القوى العسكرية الطليعية التي نهضت بمهمة حماية العاصمة وفك الحصار عنها. لكن جماعة نوفمبر لم تلبث أن وقفت على طرفين وفي معسكرين لهما أصل طائفي ولون حزبي. ومثل كل الحروب بدأ التراشق بالكلمات قبل أن يلعلع الرصاص. وبحكم سيطرتهم على سلاح الدروع استطاع غلاة الطائفيين إلحاق الهزيمة بالقوى التي كانت تمزج بين التطرف الوطني والمراهقة الفكرية.
تلك الحرب الطائفية التي وقعت في أغسطس/آب 1968 أسست لحروب قادمة أخطرها الدائرة الآن بقيادة عبد الملك الحوثي الطامح إلى استعادة حكم يدعونه بالوراثة والحق الإلهي.
ومثلما قاد 5 نوفمبر إلى أغسطس فإن 30 نوفمبر أزاح الآلاف خارج البلاد بفعل ارتداء الجبهة القومية زياً ماركسياً صارخ اللون لكي تتوالى الحروب داخل كل شطر وبين الاثنين حتى أرهق الحزب الاشتراكي وارث الجبهة القومية وسلم الجنوب لعلي عبد الله صالح وصحبه.
وهل الباعث وحده هو توافق يوم العرس مع ذكرى الانقلاب؟
أظن أن العواصف تهز الوجدان لأن بعض قادة 5 نوفمبر وحرب أغسطس كانوا موجودين. مع ذلك فقد كان هناك رجال لهم تاريخ.
نقلا عن الخليج الاماراتية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى