تحدثت في الحلقة السابقة عن الخطوات العملية للوصول إلى المدنية وابتدأتها بالخطوات على صعيد الدستور والقانون بصياغة عبارات دستورية تحقق نموذج الدولة المدنية، وبقي أن نتحدث عن الخطوات الأخرى على صعيد التعليم الدراسي وعلى صعيد الخطاب الديني، وقد اكتفيت بهذه الأصعدة الثلاثة كونها الأهم والأخطر، وإلا فإن الخطوات العملية تشمل مجالات أخرى كمجال السياسة والإعلام وغيرها.
خطوات عملية نحو المدنية (2)
تحدثت في الحلقة السابقة عن الخطوات العملية للوصول إلى المدنية وابتدأتها بالخطوات على صعيد الدستور والقانون بصياغة عبارات دستورية تحقق نموذج الدولة المدنية، وبقي أن نتحدث عن الخطوات الأخرى على صعيد التعليم الدراسي وعلى صعيد الخطاب الديني، وقد اكتفيت بهذه الأصعدة الثلاثة كونها الأهم والأخطر، وإلا فإن الخطوات العملية تشمل مجالات أخرى كمجال السياسة والإعلام وغيرها.
ب: على صعيد التعليم الدراسي
لا شك أن التعليم الدراسي في أي مجتمع هو الذي ينظم العقل الجمعي وهو الذي يكون الهوية الوطنية للمجتمع، ولا شك أيضا أن الاشتغال على التعليم الدراسي هو اشتغال على الحاضر والمستقبل، فكم حفر التعليم الدراسي من تصورات في أذهاننا صار من العصوبة زحزحتها أو تجاوزها حتى لو امتلكت الرؤية الجديدة كثيرا من المنطق والبرهان!
ولأهمية منهج التعليم الدراسي وما يبنيه في الأجيال التي هي عماد المجتمع كان لا بد أن يأخذ من الوقت والجهد في إعداده وتنقيحه وتنظيمه وتهذيبه مثل ذلك الجهد الذي يأخذه الدستور والقانون إن لم يكن أكثر، ذلك أن المنهج الدراسي هو من زاوية ما الدستور الثقافي للبلد، وما دام كذلك فلابد أن يكون جامعا، وأن لا ينفرد بإعداده جهة ما أو مذهب ما ليشكله كما يريد فتكون مخرجاته مخالفة للدستور الذي صاغوه جميعا وبالتالي ينتج صراعا.
كما أن إعداده لا يقتصر فقط على المختصين في المجال التربوي والعلمي فقط، وإنما هو بحاجة لقانونيين ينظرون في دقة عباراته وهل تتوافق مع الدستور أم لا، كما أن فريق الإعداد بحاجة لمجموعة من المفكرين الذين ينظرون برؤية أوسع لمشكلاتنا الحضارية والثقافية ويضعون الخطوط الرئيسية لمعالم النهوض الحضاري لهذه الأمة ودراسة أهم أسباب تخلفها وتراجعها، وللمفكرين أهمية خاصة كونهم يميلون للأفكار الكلية والفلسفة العامة للعلوم والمعارف، وهذا ما يغيب عن المتخصص الذي يغرق كثيرا في التفاصيل ويرى كل تفصيل مهم ولا بد أن يضمّن في المنهج، ظنا منه أنه يحافظ على العلم، وما يدري أنه وضع نفسه في مقام الطالب ونسي أن الطالب يحتاج فقط لأساسيات التفكير والمبادئ لكل علم، حتى يستطيع أن يفهم ثم يبدع ويبتكر.
ما أود الالتفات إليه أن المنهج القائم عندنا اليوم في عمومه قد حقق قدرا لا بأس به من ذلك، كما أنه لا يشبه الحالة الأوربية في صراع الدولة مع الكنيسة، حيث كانت الكنيسة هي من تصوغ منهج المدارس والجامعات، وهي من تشرف على المدرسين، بينما الحاصل عندنا أن المدارس تتبع السلطة السياسية، وهذا يعني أن المشكلة عندنا ستكون أهون.. وأنا هنا أناقش زاوية واحدة في المنهج وهي علاقة الديني بالسياسي، وهذا ما سيضطرني إلى التوقف عند منهج التربية الإسلامية فقط، وإلا فالمقترحات لتطوير المنهج التعليمي ككل كثيرة ومهمة.
اطلعت منذ فترة على منهج التربية الإسلامية من الصف السادس إلى الصف الثالث ثانوي ولم أجد فيها ما يحتاج إلى التعديل كي يحقق التعايش في ظل دولة مدنية إلا في مواضع قليلة ونادرة وهي تتعلق بطبيعة الخطاب الديني السائد ذاته ولذا سأكتفي بذكرها عند مراجعة الخطاب الديني، إلا أن هناك مشكلة أخرى لاحظتها في المنهج الدراسي ككل وفي منهج التربية الإسلامية بشكل خاص وهو كثافة المنهج بذكر تفصيلات كثيرة لا يحتاجها الطالب، وهي تفصيلات كثيرة تشتته عن الأصول إلى الفروع وعن الأسس والأركان إلى الزوايا والهوامش، تفصيلات في الأساس تكون للمتخصص في الدراسة الجامعية وإلا ماذا تركوا للمتخصص بعد ذلك؟!
كثير من التفصيلات التي وجدتها في منهج التربية الإسلامية قابلة للاختلاف وفيها أراء متعددة لم تذكر، والطالب حين يكتشف فيما بعد أن فيها خلافا ستحدث له نوعا من التشويش أو يذهب للتعصب ضد كل رأي مخالف، إن المكان المناسب لتلك الاختلافات هو التخصص الجامعي، ويكفي أن يتعلم الطالب في التعليم المدرسي أصول القيم والأخلاق وأركان الشعائر التعبدية وأركان الإيمان بالله، بلغة تربوية جامعة للمتفق عليه.
تبقى هناك مشكلة أخرى في هذا الصعيد وهي وجود مدارس خارج الإطار التعليمي الأساسي للدولة، وهذه المدارس قد تصوغ منهجها على خلاف قيم الدستور المتفق عليها وهذا يعني إفراز مزيد من المتعصبين مذهبيا أو حزبيا أو مناطقيا أو أي نوع من أنواع التعصب، ولذا فإن من واجب الدولة إلغاء هذا النوع من المدارس بحيث يبقى جميع أبناء المجتمع تحت منهج جامع واحد، ومن أراد أن يعلم ابنه مذهبه الخاص فليكن ذلك في إطار الأسرة، أو تنظم الدراسة على شكل معاهد بعد الثانوية على أن يكون منهجها خاضعا لرقابة الدولة بحيث لا يخالف ما القيم العليا التي اتُفق عليها في الدستور.
ومن الأسس والمبادئ التي يحتاجها التعليم الدراسي كي يحقق ما نسعى إليه من دولة مدنية:
• أن يتبع التعليم أسلوب الحوار، لما في ذلك من تحفيز للعقل وتنشيطه لتقبل المعارف وتوليد الأفكار، وقبول الآخر المختلف والتواصل معه والتعرف على ما هو إيجابي في أفكاره.
• وأن يعوّد الطالب على طرح الأسئلة وتوليدها، وطرح الأفكار الجديدة والمعارضة للسائد والمألوف بشجاعة، وصولاً إلى احترام كل فكرة جديدة، والبعد عن الموقف السلبي إزاءها، بل وضعها موضع الاختبار والتعرف والفحص.
• وأن يهتم التعليم بتدريس فلسفة العلوم، لأن الفلسفة هي ما يولد النزعة العقلانية والحوارية بين الطلاب وبالتي قبول الآخر ورفض الأحادية، والإيمان بالتنوع.
• وأن يؤهل المدرسون تأهيلا واعيا بحيث يدركون فلسفة المنهج وأسسه ومبادئه حتى لا يتجهون بالمنهج إلى التعصب، وأن تسن قوانين وعقوبات لمن يخالف ذلك.