آراء ومواقف

عن النموذج التركي وأردوغان وحقيقة العلاقة بالعلمانية

أ.د أحمد محمد الدغشي

أثار حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى قناة الجزيرة في 3/11/2016م برنامج (المقابلة) (1)
تمهيد:
أثار حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى قناة الجزيرة في 3/11/2016م برنامج (المقابلة) الجزء الأول، الذي يقدّمه ويديره الإعلامي الأستاذ علي الظفيري العديد من التساؤلات لدى عديد ممن تابع الحوار، عن حقيقة العلاقة بين الإسلام والعلمانية من جهة، وبين النموذج التركي المتمثل في حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان من جهة أخرى. ومع أنها ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها الرئيس التركي وبعض قيادات العدالة والتنمية عن هذه الإشكالية بيد أن صداها هذه المرة كان الأكبر فيما يبدو لأسباب عدّة منها -ربما- أنه جاء عبر أكبر قناة عربية ذات سمعة حسنة، وجمهور واسع، وعبر إعلامي لامع، وبرنامج جديد.
وقد دفعني ذلك للتفاعل مع الموضوع بدوري عبر اقتطاف جانب من كتابي الذي لايزال ينتظر النشر وعنوانه (حوار في الإسلام والعلمانية: العلمانية في المجتمعات الإسلامية: حل ممكن أم كارثة أكبر؟!) في سلسلة حلقات مع قدر من التصرف بطبيعة النشر في وسائل التواصل الاجتماعي . وددت اطلاعكم عليها وهي تقوم على أساس حوار بدأ قبل سنوات مع أحد الأصدقاء رمز إلى اسمه بـ (ناصر). ومع أن الحوار توقف منذ أكثر من خمس سنوات، ولم يكن حينها قد شمل النموذج التركي لكنني ظللت أطوره من جانبي، حتى شمل حوار أردوغان الأخير، وأفترض أن الحوار لايزال قائما مع ناصر. وإليكم الحلقة الأولى منه.
هل للعلمانية فضل على حزب العدالة؟
يحاول بعض المفتونين بالنموذج العلماني أن يصوّر أن إنجازات حزب العدالة والتنمية المشهود لها، على أكثر من صعيد؛ إنما يعود الفضل فيها إلى النموذج العلماني الذي أتاح صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم ابتداء وفوزه بالأغلبية، على مدى أكثر من دورة انتخابية، وذلك – في زعمهم- دليل على (عظمة) العلمانية، حيث وصل خصمها إلى سدّة الحكم في ظل إدارتها، بل يذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، حين يردّد أن حزب العدالة والتنمية ليس بأكثر من حزب علماني !! وذلك حكم مختزل في شقيه، بل سطحي- معذرة- . وهو مايقتضي الكشف عن ذلك، بعد أن أصبحت ألسنة علمانية غير قليلة، وأخرى إسلامية (مضطربة)، أو (مفتتنة) كذلك بـ(المعبود) العلماني الجديد تلوكه، وبيان ذلك على النحو التالي:
 
إن من يردّد مقولة منّة العلمانية على حزب العدالة والتنمية التركي؛ إنما ينظر إلى واقع تركيا في ظل العدالة والتنمية بمعزل عن مقدّمات العلمانية تلك، ومسيرتها المديدة التي ملؤها القهر والعنف والمصادرة للحرّيات، والتنكّر لقيم الدّين وثقافة المجتمع التركي الأصيلة، خاصة أن الحزب تمكّن من الإفلات – حتى الآن- من توحّش العلمانية التركية، على خلاف ماصنعته بنظرائه السابقين.
 
أجل يتجاهل من يستخلص ذلك الحكم المختزل المسطّح في العلاقة بين الملف السيئ للنموذج العلماني التركي في باب الحكم والحقوق المدنية والحرّيات العامة، طيلة العهد الأتاتركي الكمالي السافر، منذ عهد المؤسس حتى حكم العدالة والتنمية، ولايزال كثير من أتباعه يتحينون الفرصة بعد الأخرى للانقضاض على تجربة حزب العدالة ورموزها بغية الإجهاز عليها نهائيا.
يتناسى من يقدّم استخلاصاً كهذا أن ثمّة تجارب تركية سابقة مقاربة قد حاولت الوصول إلى السلطة وهي من الاتجاه (الإسلامي) العريض في تركيا- كما سأوضح لاحقاً- تمّ إقصاؤها إقصاءً علنياً من السلطة، بل صدرت أحكام قضائية (عسكرية) على حرمانها وبعض رموزها( نجم الدين أربكان نموذجاً)، من العمل السياسي، ولم يعدم العلمانيون هناك تقديم تهم متهافتة ساقطة، هدفها النهائي أن يضمن العلمانيون عدم عودة ذوي الاتجاه الإسلامي ثانية، ومن ثمّ يخلو الجوّ لهم وحدهم. أمّا سندهم القوي في تنفيذ ذلك فالاستقواء بالمؤسسة العسكرية، مع أنّهم قد صدّعوا رؤوس الجماهير بالديمقراطية والمؤسسات المدنية، ومبدأ فصل السلطات !! وكل ذلك يضطر ذوي الاتجاه الإسلامي في تركيا كلما صدّتهم العلمانية المتوحشّة تلك إلى تغيير عناوين أحزابهم، والإتيان بشخصيات لم تتعرض بعد للاتهام والإدانة والعنف (العلماني)، وهكذا دواليك.
في ضوء ما تقدّم يرِد السؤال الأكبر:
لِمَ لَمْ يعمد سدنة العلمانية هناك عبر العصا الغليظة (المؤسسة العسكرية) إلى ممارسة الأسلوب ذاته مع (العدالة والتنمية)؟
أحسب أن ثمّة عاملين رئيسين يحولان دون تحقيق ذلك: أحدهما داخلي سأتناوله في هذه الحلقة، والآخر خارجي، سيتم تناوله في حلقتين أخريين. وبيان ذلك على النحو التالي:
أولاً: العامل الداخلي:
إن فوز حزب العدالة والتنمية سواء في دورته الأولى عام 2002م أم الثانية عام 2007م فوزاً غير مسبوق في تاريخ المحاولات (الإسلامية) هناك، من حيث عدد الأصوات التي حصدها، ولاسيما في الانتخابات الثانية، بعد أن شاهد الناخب التركي الفارق الملموس بين أداء الحزب الجيّد في الدورة السابقة، ومسلكه النظيف مالياً، وبين أداء كل الأحزاب العلمانية السابقة، التي دمغتها سمعة الفساد بكل ألوانه، وهو ما تأكّد أكثر من خلال إصرار الناخب التركي على تعميد ولائه للحزب بانتخاب أحد قادته (عبد الله جول) رئيساً للجمهورية عام 2007م، ثم انتخاب الرجل الأقوى في حزب العدالة وهو طيب أردوغان رئيساً للجمهورية في 2014م، وتجديد الثقة في الحزب في انتخابات في 1/11/2015م لقيادة تركيا منفرداً، مجدّداً، بنسبة قاربت الـ50%، بزيادة قدرت بـ4 ملايين صوت لصالح الحزب، مقارنة بالانتخابات السابقة، وفقاً للباحث في الشأن التركي محمد زاهد جول.
وتقرّ مجلة (فوكس) الألمانية أن شخصية طيب أردوغان المثيرة للجدل على مدى تاريخه السياسي، التي عادة ماتسبب تصريحاته غضباً واضطراباً في الخارج؛ لاتحدث ذلك في الداخل التركي، وأرجعت السبب إلى الانتعاش الاقتصادي الذي حققه لتركيا( ). ناهيك عن أن ذلك الرخاء الاقتصادي جاء في أوضاع من الاستقرار والأمان، وهما سر نجاح النموذج التركي المتمثل في حزب العدالة والتنمية، وفقاً لما أفصح عنه أردوغان حين أعلن أن السر في نهضة تركيا في ظل العدالة والتنمية يعود إلى تمكنه من تحقيق عنصري الأمان والاستقرار( ).
كل ما تقدّم شواهد جليّة على أن أيّ تفكير بتدخّل العلمانيين عبر المؤسسة العسكرية–كعادتهم في السابق- لإجهاض فوز (العدالة والتنمية) ومشروعه يعني انزلاقاً إلى مواجهة شعبية عارمة هذه المرّة، وهو ما ليس في مصلحة العلمانيين بالقطع.
والواقع أنني لطالما كنت أردّد العبارة السابقة الأخيرة في كتابات سابقة، ومناسبات مختلفة ذات صلة بهذا السياق، أيْ أن أيّ تفكير بتدخّل العلمانيين عبر المؤسسة العسكرية –كعادتهم في السابق- لإجهاض فوز (العدالة والتنمية) ومشروعه سيجرّ إلى مواجهة شعبية عارمة هذه المرّة، وهو ما ليس في مصلحة العلمانيين بالقطع، وربما لم يكن ذلك مقنعاً لبعض المغرمين بالنموذج العلماني، حتى جاء الشاهد العملي الأكبر المتمثّل في تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 /7/2016م،لبعض منتسبي المؤسسة العسكرية، ومعهم بعض القضاة والقانونيين والإعلاميين والمعلمين والعاملين في التعليم العالي وسواهم، فأكّدت مصداقية ذلك التحليل، إذ إن الذين حاولوا الانقلاب على حكم حزب العدالة والتنمية، وُوْجِهوا برفض شعبي وحزبي وسياسي عارم، ربما لم يكونوا يتخيّلونه على نحو ماتمّ فعلياً. أمّا ما قد يقال من أن انقلاب 15 يوليو/تموز2016م اتهمت به جماعة الخدمة، وهي جماعة إسلامية لاحزب علماني فآمل منك عزيزي ناصر- أن تمهلني قليلاً، وسآتي على مناقشة ذلك في حلقة قادمة في سياقها الأنسب بعون الله-تعالى-.
نقلا عن صفحة الكاتب في فيس بوك
………………………………………………………………………………………….
*الكتابات والآراء المنشورة تعبر عن مواقف كتّابها ولا تمثل بالضرورة رأي “يمن مونيتور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى