«الخوخة» اليمنية: مدينة البراءة الموعودة
المدينة الموعودة «الخوخة» مدينة البراءة والنقاء والجمال، البسيطة بساطة طبيعتها يمن مونيتور/سعاد الحدابي
المدينة الموعودة «الخوخة» مدينة البراءة والنقاء والجمال، البسيطة بساطة طبيعتها، والساحرة سحر شواطئها، والنقية نقاء قلوب أهلها البسطاء. مدينة نائمة في حضن البحر تقتات من أعشابه وتنام على شواطئه الذهبية، ساكنة سكون الطبيعة الغناء من حولها وممتدة امتداد أشحار النخيل الباسقة، وكثيفة الخضرة الممتزجة بلون البحر والسماء. شواطئها الممتدة تشبه امتداد حلمها بغد أفضل، وطول نخيلها وكثافة أشجار الدوم يمدُّ السائر بظل وفير لاسيما في صيفها الحار كما يمدُّ سكانها بطعم الحياة. لا أحد يعرف جمال هذه المدينة وبساطتها إلا من جلس إلى أهلها الذين يتميزون بطيب الأخلاق واشراقة الأمل في أعينهم. فعندما يتحلقون في أماسي الصيف ويتربعون على أسرتهم المصنوعة من الحبال وتسألهم لم يرفعون أرجلهم وهم على أسرة مرتفعة؟ فيجيبون بمرح حتى نبتعد عن حرارة الأرض ولسع الهوام والحشرات! كنت أظنهم يمزحون لكن المساء كان يؤكد صحة مقولتهم، فألوان من الحشرات البحرية بدأت تتجه إلى الشاطئ باحثة عن دفء الأرض ربما أو ربما رغبت في تغيير بيئتها البحرية.
تلك الحركة الهادئة باتجاه الشاطئ تبين مدى قرب البحر من بيوت السكان التي تبدو وكأنها تحتضن أمواج البحر. يجلس الناس هنا على أسرة مرتفعة مصنوعة من الحبال، وأحيانا يضعون فرشاً من الحصير، ما يعكس َمهارتهم في صناعته، فالحصير مهنة الكثير منهم، أما الأسرَّة المرتفعة فهي من منتوج البيئة المحلية. وصناعة الحصير حرفة حافظ عليها الأبناء وأخذوا سرها من الآباء والأجداد، ذلك لأن بيئتهم البسيطة لم تعقدها مظاهر الحضارة وترف العيش، فالسكان هنا يزاولون حرفا بسيطة لأنهم بعيدون عن ترف المُدن، ولعل بعدهم عن مظاهر المدنية جعلهم يحافظون على صناعاتهم الحرفية بأدواتهم البدائية وكأنهم في عالم معزول عن سبل التطور ما جعل مدينتهم في ثوبها البسيط أجمل من مدن غزتها مظاهر المدنية فأفقدتها جمال البساطة وأصالة المظهر، الذي يتجلى في بساطة الحياة التي تتداخل فيها مظاهر الطبيعة وتمتزج بتناغم فريد.
الشاطئ منفتح على بحر لا حدود له
وتبدو تضاريس المدينة متناغمة، فالجبل يمتد إلى السهل والسهل منبسط إلى الشاطئ، والشاطئ منفتح على بحر لا حدود له. والشواطئ المفروشة بفسيفساء ملونة من الأصداف المنوعة بتشكيلاتها البديعة لا تزال ملقاة على امتدادها، بل إن بعض الشواطئ البعيدة لم تصلها أقدام المشاة بعد، وإنما تعبرها قوارب بسيطة تتأرجح يمينا ويسارا في رحلات غير منتظمة لتظل شواطئ الخوخة بعيدة عن ضجيج السواحل وقبلة للراغبين في السكون.
تقع الخوخة غرب مدينة حيس بمسافة (28كم) تقريبا، ويربط بينهما طريق اسفلتي تتوسط مصبيِّ وادي زبيد من الشمال ووادي رسيان من الجنوب، كما يتصل شاطئها جنوبا بشاطئ المحرق وشمالا بالقطابا الذي يعدُّ أحد أهم الموانئ اليمنية المشهورة في القرن الخامس عشر الهجري. أما تسميتها فيقال أن «الخوخة» تعني النافذة أو الكوة الصغيرة التي ينفذ منها الضوء، ما يدل على أن هذه المدينة كانت بمثابة نافذة اليمن إلى العالم في فترة تاريخية سابقة، ويقال إنها بمثابة نافذة على مدينة حيس، التي تطلُّ منها على البحر الأحمر. ولعل أكثر ما يلفت نظر الزائر هو تلك الأنواع المتنوعة من الطيور وعندما تسأل السكان عن أسمائها يبدأون بتحديد نوعيتها وما إذا كانت من الطيور المستوطنة أو المهاجرة، مما يدل على معرفة السكان بأشكالها المتنوعة ومواطنها. ومن هذه الطيور الصقور والعقاب والوروار وطائر الجنة «طائر الفردوس» واللقلاق والبوم والحمام البري والنورس والهدهد، التي تضفي جمالا آخر على شواطئ الخوخة.
أما حين نبتعد عن الشاطئ ونتجه نحو امتداد اليابسة نجد تدرج اللون الأخضر حتى تقترب الخضرة من السواد في أحد مظاهر الطبيعة الجميلة التي تتمثل في الغابات الكثيفة الخضراء التي لا تقل جمالا عن طبيعة الشواطئ الممتدة بصفرتها الذهبية. وفي السنوات الأخيرة ومع توافد بعض السياح للمدينة شهدت الخوخة حركة سياحية فبنيت فيها خمسة فنادق سياحية وبيوت من الطين لمبيت الزوار إضافة إلى وجود بعض القرى السياحية البسيطة التي تقع بالقرب من السواحل المظللة بأشجار النخيل، وبعض السواحل التي تتميز ببياض تربتها ووجود تلال رملية تتخللها مصبات بعض الوديان المنحدرة من المرتفعات الداخلية. ولعل متعة السياحة تتمثل في الإقامة في بيوت بدائية ذات سقف من سعف النخيل أو في أكواخ بسيطة مصنوعة من أعواد القصب وتعد الأكثر برودة لاسيما في فصل الصيف. وعادة ما تقام هذه البيوت بجوار الشاطئ ليتمكن الزائر من الاستمتاع برؤية البحر في الصباح الباكر، كما يمكنه الاسترخاء على صوت الأمواج الهادئة، غير أن الأمر لا يخلو من مغامرة مع حلول المساء وتدافع أعداد من الحيوانات البحرية إلى الشاطئ، ويقوم بعض الزوار باصطياد أنواع من سرطانات البحر وهوامه التي تتمشى مع حلول المساء لتدل على حميمية العلاقة بين هذه الكائنات البحرية وسكان الشاطئ الذين عادة ما يمشون بدون أحذية أو يرتدون أحذية جلدية ذات صنع محلي يدوي فالحاجة هي أم الاختراع ومصنوعات هذه المدينة توفر لهم مستلزمات حياتهم البسيطة، فهم يصنعون الأحذية من جلد الماشية كما يطرزون الأحذية النسائية ببعض الأصداف، ومن الأصداف يصنع بعض الهواة لوحات فنية رائعة، كما يتم تحنيط بعض السرطانات البحرية ذات الألوان العجيبة وتثبت في لوحات وتعلق في الجدران أو تباع بثمن زهيد فالحاجة للمال هي الدافع للعمل لا سيما في مدينة تفتقد لأبسط مقومات الصناعة.
صناعة القوارب
ولعل الصناعة الأكثر انتشارا هي صناعة القوارب، حيث يمثل الصيد عصب الحياة في هذه المدينة الساحلية وأكثر ما يفعله سكان هذه المدينة هو الصيد حيث يحترف غالبية السكان هذه المهنة لسدِّ احتياجاتهم المعيشية وليتم نقل الأسماك إلى المدن المجاورة كمدينة تعز وحيس حيث تشتهر أسواق السمك. كما أن القارب وسيلة لكسب العيش أيضا وذلك بنقل بعض السيَّاح إلى وسط البحر أو إلى الجزر القريبة، إضافة إلى أنه وسيلة للتزاور بين أفراد الأسرة الواحدة الذين قد يقطن بعضهم في الطرف الآخر من الشاطئ الممتد.
وإلى جانب الصناعة والصيد يعمل بعض السكان في زراعة القطن والسمسم والخضروات والفواكه، كما يمتلك عدد منهم مزارع النخيل وتنتشر أشجار البرتقال والتين رغم حرارة الجو. ويعمل عدد قليل من السكان في الرَّعي. وكما تتميز الخوخة بتنوعها الجغرافي وسواحلها الذهبية المرصعة بأصداف البحر الملونة فأنها أيضا غنية ببعض المآثر التي أبدع فيها الإنسان وترك بصمة مشرقة في تاريخ هذه المدينة ومن هذه المآثر اللافتة للنظر وجود بقايا سفن عملاقة، إضافة إلى سفينتين متوقفتين قرب الساحل مما يشير إلى أنها كانت تشهد حركة تجارية كبيرة بحجم تلك السفن التي أعطبت ووقف بها الزمن لتظل تذكاراً لتاريخ المدينة. وفي المدينة ما يدل على وجود إرث تاريخي عريق، ومن هذه المآثر على سبيل المثال:
الجامع الكبير: ويعد مسجدا أثريا حيث يعود تاريخ بنائه إلى عصر الدولة الرسولية والذي بناه المظفر يوسف بن عمر ( 647-694هـ) وقد جدد هذا الجامع في فترات تاريخية مختلفة، كما يبدو من بعض جوانبه.
مسجد علي ودريب: في قرية (موشج) في جنوب الخوخة يوجد مسجدان أثريان يمثلان البناء القديم، فمسجد علي ينسب بناؤه للخليفة الرابع (علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه) وأما المسجد الآخر فيُسمى مسجد دريب، ويعود إلى 1295هـ وينسب إلى عبدالله بن عبدالله دريب. كما يوجد مسجد الحسين بن سلامة الذي يعود بناؤه إلى القرن الرابع الهجري، ومسجد أبي الخير الذي بني في القرن السادس الهجري.
ودار العميسي: وهي عبارة عن دار بُنيت بشكل هندسي فريد على هيئة القلاع والحصون القديمة، وهو عبارة عن متارس متعددة وفي باب الدار فتحة صغيرة للمراقبة، ويقال أنه بُني قبل مئتي عام، وقد بناه الشيخ العميسي والذي سماه باسمه، وتستعمل الدار حاليا سكنا لحفيد من أحفاد العميسي، كما يستعمل مركزا للصناعات الحرفية.
وهناك أيضا قلعة القاهرة وتعود إلى القرن التاسع الهجري، ومبنى الميناء القديم، والجمرك.
تجوال النظر في الطبيعة
وتشهد المدينة بعض التجمعات الاحتفالية تقام في بعض المناسبات الدينية كالمولد النبوي، وجمعة رجب، وكذلك تقام في موسم جني التمور.
تتميز الخوخة بشواطئ طويلة ورائعة تميزها عن بقية شواطئ اليمن وأهمها:
أبو زهر: ويعد من أجمل الشواطئ اليمنية ويتميز بانتشار أشجار النخيل والدوم على امتداده، وبوجود المياه العذبة على عمق سنتيمترات من سطح الأرض فمجرد أن تحفر حتى تبع المياه العذبة، وقد بنيت فيه بعض المنشآت لاستضافة بعض الزوار. أرخبيل جزر زقر وحنيش: وهي عبارة عن مجموعة من الجزر تقع في مواجهة شاطئ المدينة ويبلغ عددها اثني عشرة جزيرة، تمثل طبيعة جغرافية ساحرة وتعد سياحية لم تمسها يد الإنسان ولم تؤثر فيها مظاهر التحضر وسبل الحياة العصرية، إذ لا تزال متفردة بجمال طبيعي، ومحتضنة في أعماقها بيئة بحرية غنية بالأسماك والأحياء البحرية العجيبة، كما توجد فيها تشكيلات متنوعة للشعاب المرجانية.
تصل الخوخة بطرق معبدة تمتد من مدينة تعز أو من مدينة الحديدة، كما يمكن الوصول إليها عبر طريق بحري عن طريق ميناء الحديدة، وفي الطريق إليها لا تخلو الرحلة من متعة تجوال النظر في طبيعة الأرض اليمنية التي تجمع بين الخضرة حينا والتصحر حينا آخر، تلك هي طبيعة التضاريس التي تصل بالسائر إلى ساحل الخوخة المليء بالأحلام.
نقلا عن القدس العربي