صار من المهم اليوم السعي لـ”دولة مدنية” توفر الأمن والسلامة لكل أبنائها، وتدير الاقتصاد والتنمية في المجتمع، وتحقق العدالة بين كل الناس، وتوفر الحرية لكل الأفراد، وتضمن المواطنة المتساويةبين جميع المواطنين ذكوراً وإناثاً أمام القانون. خطوات عملية نحو المدنية (1):
صار من المهم اليوم السعي لـ”دولة مدنية” توفر الأمن والسلامة لكل أبنائها، وتدير الاقتصاد والتنمية في المجتمع، وتحقق العدالة بين كل الناس، وتوفر الحرية لكل الأفراد، وتضمن المواطنة المتساوية بين جميع المواطنين ذكوراً وإناثاً أمام القانون، وتكافؤ الفرص والحقوق والواجبات بغض النظر عن قناعاتهم الدينية وانتماءاتهم المذهبية والمناطقية، وبهذا فإن “الدولة المدنية” تصبح ضرورة سياسية واجتماعية وحاجة دائمة لهذه الشعوب التي عانت كثيرا من صراعاتها وحروبها واستبداد حكامها.
إننا بعد هذا المخاض كله من الصراعات والحروب لن نقبل بحلول تؤجل الحروب أو تفخخ المستقبل أو تجعلنا أسوأ مما كنا عليه.. إن أي حل يذهب باتجاه المحاصصة الطائفية أو المناطقية أو يذهب إلى ما هو أسوأ منه بالتقسيم فإنه سيجهض فكرة الدولة المدنية وسيزيد النار اشتعالا علينا وعلى من حولنا، وسيزيدنا جميعا تخلفا وتراجعا على كل المستويات.
إن ما سأضعه هنا من خطوات عملية هي نقاط بسيطة تدخل ضمن ما تم إنجازه بتوافق وطني كبير جمَع ممثلي كل فئات الشعب وأحزابه ومذاهبه، عبر “مؤتمر الحوار الوطني”.. ولكن هذه النقاط التي سأتوقف عندها تحتاج لمزيد من تسليط الضوء عليها كي تكون ثقافة عامة يعيها كل من يريد أن يتجه صادقا إلى الحلول الناجحة لا إلى الاستحواذ والسيطرة.
لقد تأملت في تاريخ الصراع الأوروبي في قرونه الأخيرة فوجدت أنهم توصلوا في نهاية صراعهم إلى حلول مناسبة عبر خطوات تمت على صعيد الدستور والقانون، وعلى صعيد التعليم الدراسي، وعلى صعيد الخطاب الديني، وهذه الأصعدة الثلاث هي ما وجدته يناسب حالنا أيضا مع اختلاف في الفروع، فما هي تلك الخطوات التي تحقق تلك الصيغة من المدنية؟
على صعيد الدستور:
١-لحل مشكلة الصراع المذهبي ومحاولة كل مذهب -يصل إلى السلطة- تفسير الشريعة بحسب ما يراها من زاويته غير مبال بالاختلاف الذي قد يكون عند مذهب آخر، وهذا ما وجدناه عند تفسير المادة في الدستور التي تقول أن: (الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات) فقد وجدنا كل مذهب يرى نفسه هو الشريعة ويحاول فرض رؤيته على أنها الشريعة، فمرة يصعد هذا المذهب فيستبعد المذاهب الأخرى، ومرة يصعد مذهب آخر يخالف الأول فيستبعد الأول ويحاول فرض رؤيته على أنها الشريعة الإسلامية وأنها قول الله، وهكذا نظل نعاني مرة من استبداد هؤلاء ومرة من استبداد أولئك، ولذا كان لابد من تغيير هذه المادة بمادة أدق منها لا تسمح بذلك الاستفراد المذهبي، أو على أقل الأحوال تفسيرها بما لا يؤدي لذلك الاستفراد.
إن هناك دواع كثيرة لتغيير تلك المادة سأذكر بعضها بسرد سريع لأني كنت قد فصلتها من قبل في رؤية متكاملة، ومن هذه الدواعي ما يلي:
أولا: أن هذه المادة لم تحدد بشكل دقيق ما المقصود بالشريعة الإسلامية؟ وهذا قد يجعلها تخدم مذهبا معينا أو طائفة معينة أو تراثا معيناً حين يصل صاحبه إلى السلطة! فهل المقصود بالشريعة أقوال الفقهاء لمذهب معين؟ أم هي المذاهب المشهورة؟ أم المذاهب كلها؟ أم ما جاء في كل التراث الفقهي؟ وهل تدخل الاجتهادات المعاصرة أم لا؟ إن كل تفسير من التفاسير السابقة لا يصح وسيوقعنا في إشكال لا مخرج منه، وهذا ما حصل سابقا حين كان كل مذهب يفسر الشريعة على مذهبه، ويعتبر المخالف له خارج الشريعة، ثم يتوسع الصراع في الشارع لينتهي بانتصار الأكبر صوتا لا الأكثر منطقا وحجة.
ثانيا: هذه المادة تقصر مصدر التشريع على مصدر واحد هو الشريعة بحسب تفسيرهم للشريعة طبعا، وهذا يخالف العقل أولا وأصول الشريعة ثانيا والواقع ثالثا!! فالعقل يقول: بأن نصوص الشريعة متناهية والحوادث لا متناهية، ولكل عصر حوادثه التي لم تكن في العصر الذي قبله، فكيف يستطيع المتناهي أن يستغرق مشكلات اللامتناهي بنصوص جزئية؟! أما أصول الشريعة فقد أحالتنا إلى العرف مرارا، وإلى العقل ليكمل جزئيات أصولٍ ذكرها القرآن، ومنها أصول السياسة المتمثلة في العدالة والشورى، إذ ترك لنا النص القرآني مهمة إيجاد الوسائل المناسبة في كل زمان ومكان لتحقيق العدالة والشورى.. أما الواقع فيقول أن هناك فقهاء في كل عصر اجتهدوا في مسائل وقضايا لم تكن عند من قبلهم، ويقول الواقع أيضا أن المجلس التشريعي اليوم يسن قوانين لم تكن موجودة من قبل، وهذا يعني أن الاجتهاد العقلي لابد من استمراره ما دامت الحوادث متجددة، ولا بد أيضا من تطوير ذك الاجتهاد من اجتهاد فردي إلى اجتهاد جماعي كي يحقق الشورى في أبهى صورة له، وهو ما يمكن أن يقوم به مجلس النواب بصورته التي ذكرتها في مقال سابق (بطريقة القائمة النسبية).
صحيح أن هناك فريق من الفقهاء يرى في ذلك القصر للمصدر على أن الشريعة على أساس أنها قد أحالت على ذلك المصدر الخارجي، ولكن العبارة بتلك الصيغة قد تجعل فريقا يحصرنا على ما جاء في كتب التراث فقط دون عملية اجتهاد.
إن العبارة المناسبة للدستور بدلا عن تلك المادة، والتي يمكن أن تحقق جوهر المادة الأولى هي (لا يجوز أو لا يصح سن أي قانون يخالف قطعياً من قطعيات الشريعة المتفق عليها بين المسلمين). وهذا المادة لا أجزم أنها ستحل ذلك الصراع تماما، ولكنها ستضيقه إلى حد كبير، وستخرج الناس من دائرة ضيقة إلى دائرة واسعة تسع كل المذاهب، وتسع حتى من كان خارج المذاهب الفقهية، وهناك عدة اعتبارات تقوي هذه المادة:
أولا: إنها تتفق مع القاعدة الفقهية التي تقول: “لا إنكار في مسائل الخلاف” لأنها تركت الإنكار على المسائل المختلف فيها بين المذاهب وما أكثرها، والمختلف فيه بحسب ما يقوله الأصوليون: هو كل قضية كان دليلها ظنيا في ثبوته أو دلالته، والمتفق عليه هو: كل قضية كان دليلها قطعيَا في ثبوته ودلالته، وسيكون الخلاف في هذه الدائرة أضيق، وبالتالي ستكون مضاعفاته أقل.. ولا أظن هناك رجل عاقل سيرغم غيره على مسألة مختلف فيها أو يجوز فيها الخلاف.
ثانيا: أن هذه المادة تتوافق مع حرية الاختيار لكل فرد في البلد حتى لو اختار خارج تلك المذاهب كلها، ذلك أن ما هو متفق عليه بين الجميع هو تلك المبادئ والحقوق التي تحفظ حقوق الإنسان في نفسه وماله وعرضه، وهذا ما ينادي به كل ذي عقل وقلب سليم، مع العلم أن التشريع لا يخص جانب العقائد والشعائر لأنهما حالة خاصة بين الفرد وربه ولا تتدخل الدولة فيه.
ثالثا: أن هذه المادة ستجعل الباب مفتوحا للاجتهاد العقلي في ضوء تلك المبادئ والأصول العامة، بدل القصر الذي كان في المادة الأولى.
٢- إضافة مادة في الدستور تنص على “حياد الدولة تجاه المذاهب” و”استقلال السلطة السياسية عن سلطة العسكر وسلطة القبيلة”.
٣- بقاء المادة التي تنص على أن “دين الدولة الإسلام”، برغم أن الدولة كيان مجازي لا حقيقي، وهذا يعني أنه لا يصح أن ننسب لها الدين بشكل عام، والمجتمع جماعة من المؤمنين لا جماعة مؤمنة، ولكن لا بأس ببقاء المادة حتى لا ندخل في جدل لسنا بحاجة إليه..
إن تلك المادة بالأساس تقليد أوروبي احتفظت به الدول هناك بعد صراعها المذهبي الطويل، فبقيت تلك الآثار في صياغتها لدساتيرها، وهذا ما نجده في دساتير بعض دول أوروبا حتى العريقة منها في الديمقراطية، ولكنها لا تؤثر على قيم الحرية والعدالة والمساواة.