الذكرى العشرين لقناة الجزيرة، فتحت في ذاكرتي شريط الذكريات السياسية والاعلامية كشاب يمني كانت اهتماماته ثقافية وفكرية، وعندما أدركت معضلة الاستبداد فكرياً توسع اهتمامي نحو الشأن السياسي، وخصوصاً منذ انخراطي المبكر في العمل الطلابي النقابي والسياسي في الجامعة. الاهداء الى مكتب الجزيرة في اليمن
الذكرى العشرين لقناة الجزيرة، فتحت في ذاكرتي شريط الذكريات السياسية والاعلامية كشاب يمني كانت اهتماماته ثقافية وفكرية، وعندما أدركت معضلة الاستبداد فكرياً توسع اهتمامي نحو الشأن السياسي، وخصوصاً منذ انخراطي المبكر في العمل الطلابي النقابي والسياسي في الجامعة.
البداية كانت ذات مساء من أماسي الحرب الأمريكية على العراق؛ كانت هي اللحظة الأولى التي اشاهد فيها قناة الجزيرة عبر ما كان يسمى بـ”الستلايت” أو كان يطلق عليه في اليمن “الدش”، كمفردة شعبية يمنية تم اطلاقها على الصحن اللاقط للقنوات.
شاهدت لأول مرة قناة الجزيرة في مرحلة تحول من المراهقة إلى الشباب.
كنت مذهول أمام الكرة الذهبية التي تغوص في البحر وتصعد دون أن تتبلل، وكان إلى جواري ابن عمي يردد جملة: “لكنها لم تتبلل”؛ كنا قادمين من القرى ولم تكن لدينا أدنى خلفية عن المونتاج ولا عن الجرافيك، وكل صور نراها كنا نعتقدها حقيقة، ونستمر مذهولين نضغط على أصابعنا أمام المرئيات الملونة التي نراها لأول مرة..
كانت المعارك العراقية الأمريكية تدور في منطقة اسمها “ام قصر”، وهي المنطقة العرافية التي صمدت أكثر من صمود بغداد، غير أن اللافت في الأمر أن صاحب المنزل الذي كنا نشاهد فيه الحرب الأمريكية العراقية كان يردد باستمرار: ثبّت على الجزيرة.. لم نكن حينها نعي معنى ثبّت ولا معنى الجزيرة!
كان الزمن يمضي ونحن نمضي معه، وفي قريتنا النائية بعد توفر الحد الأدنى من الطاقة الشمسية والمولدات، بدأنا نتعرف على الإعلام المرئي، وبدأت التكنولوجيا والميديا تحضر تدريجياً، وبدأ الجمهور السياسي في القرية يتوزع بين جيلين..
جيل من الجمهور السياسي ذو نزعة تقليدية، والذي كان يستقي الأخبار والتحليلات المتعلقة بالأحداث السياسية عن طريق اذاعة “بي بي سي”، وجيل من الجمهور السياسي الشاب والمعارض بطبيعته للأنظمة الاستبدادية والميال إلى التغيير والتجديد والابتكار، وكان من ضمن المتابعين للجزيرة.
كنتُ أحد الذين انخرطوا ضمن جمهور الجيل الثاني، وثبّت الجزيرة في القائمة رقم 1، وتابعت بشغف البرامج الجدلية والاستقصائية وتلك التي كانت تتوغل في الشأن العربي، إضافة إلى هواية متابعة مراسلي القناة، وتمييز نبرات صوتهم في مطلع كل تقرير.
عرفت ميقات البرامج ووضعت الجزيرة ضمن برنامجي اليومي إلى جانب جدول المذاكرات في الثانوية العامة وحتى في الدراسة الجامعية..
في شوارع صنعاء، ترددت على المقاهي والبوافي التي كانت تضمع ضمن خدماتها شاشة تلفزيونية تهتم بالسياسة وتضع الجزيرة ضمن تلك الاهتمامات، لكنني ظللت اتأمل حضور الجزيرة بين جيلين، جيل الآباء كجيل اتسم بمهادنة الأنظمة وتطوعت ذهنيتهم ونفسيتهم على التطبيع مع الوضع السائد، وهذا الجيل كان يرى في الجزيرة قناة تحرض على الحرية وتتبني خطاب منحاز إلى مصلحة الشعوب ولا تذيل تناولاتها الإخبارية بـ”فخامة” وسماحة و”قداسة”، لكنها تضع الشعب في منزلة رفيعة أعلى من مرتبات الحكام..
هذا الجيل كان إلى حد ما يشبه نفسية وشخصية النظام الحاكم، وغالباً ما كان الجيل القديم يصغي إلى الحملات التحريضية للنظام البوليسيي للأنظمة الحاكمة التي كانت تصور الجزيرة ضمن المؤامرة العالمية ومطابخ الفتنة ومفردة الفتنة مفردة مألوفة ترددها النخب السلطوية وتستقيها من المفردة التي تم وضعها في أرشيف فقه الاستبداد التي كانت تصور الثورة بالفتنة قبل أن تأتي الثورات العربية الأخيرة لتعيد صياغة مفردة الثورة باعتبارها مفرده لها علاقة بالحرية وبالكرامة الإنسانية أكثر من علاقتها بالفتنة كما كان يصورها التراث الأسود صديق الاستبداد وخصم الحرية..
وهو ذات الجيل أضغى إلى التحريض على الجزيرة ومراسليها وأغلق مكاتبها وغالبا ما ارتبط اغلاق مكتب الجزيرة بالثورات العربية التي كانت تبدأ بالتظاهرات الشعبية ثم يقابلها قمع بوليسي للمتظاهرين واغلاق لمكتب الجزيرة والاعتداء على مراسليها ثم تتسع دائرة الثورة ويسقط النظام الاستبدادي ويتم فتح مكتب الجزيرة مجدداً بل إن مراسلي القناة وصحفيها نالوا قسطاً من التنكيل مثلهم مثل شعوبهم التي عبروا عنها ونقلوا صوتها إلى الملأ..
تيار من الجيل الجيل الثاني كان يجد له علاقة في تناولات الجزيرة وجملتها السياسية الحديثة واللاسعة التي لها علاقة بالحرية، ووجد ذاته منخرط في السياسة الإعلامية للجزيرة التي أعلت من شأن الحرية وأزالت القوالب الديكورية التي كان تحيط الحاكم بهالة على ذاته وضعته في موضعه الطبيعي “ممثل بالشعب، يمثل عليه ولا يمثل مصالحه”.
مضت الأحداث المفصلية في تاريخ الشعوب العربية، كانت تلك الأحداث محطة الاخبتار الحقيقية للجزيرة بين جيلين. جيل كان يتابع تناولات الجزيرة بعمق ورؤية وهذا الجيل كان يحظى بقدر جيد من الثقافة والرؤية التحليلية للأحداث، وجيل كان يتابع الاخبار بشكل عام، لكن لا يعتبر ذاته فاعلاً مهماً ومؤثراً فيها كما جيل الشباب المعارض للأنظمة الاستبدادية..
قبل اندلاع الثورات العربية بسنوات، كنا مجموعة شباب وزملاء في السكن الجامعي نضع ضمن جدولنا العلمي والثقافي الجزيرة وبرامجها، ولم نكن نعلم أن أكثرمن نصف تلك المجموعة سيكون لهم حضور عبر تلك القناة التي تابعوها بشغف كبير من سنوات ما قبل ثورات الشباب.. وانهم في يوم ما سيشاهدون أنفسهم في برامج الإعادة كما كانوا يتابعون ضيوف الجزيرة من أرجاء الوطني العربي؛ هؤلاء الشباب كانوا ضمن الجيل الثاني الذي يرى في الجزيرة رئة لحرية التعبير في الوطن العربي، ويرى لها سلبيات وايجابيات لكنها في المجمل عامل مهم في حرية الشعوب بشهادة الجميع بما في ذلك خصوم الجزيرة الذين خاصموها لحظة انحيازها إلى حرية الشعوب وثوراتها الخالدة..
وكما تقول خلاصة الاثير الجزيرة كسرت الزجاج المعتم، ونقلت صورة كبيرة بكل مافيها، غامرت وكسبت وخسرت.
—————-
*عن صفحة الكاتب على (فيسبوك).