ناقشت في الحلقات الماضية من هذه السلسلة مدى توافق أو تقاطع مبادئ العلمانية مع أصول ومبادئ الفكر الإسلامي علمانية أم مدنية؟
ناقشت في الحلقات الماضية من هذه السلسلة مدى توافق أو تقاطع مبادئ العلمانية مع أصول ومبادئ الفكر الإسلامي، وبعد اختيار أحد تعاريف العلمانية في بعدها السياسي -وهو البعد الذي يمكن أن نستفيد منه في حل بعض مشكلاتنا السياسية- اخترت تعريف المفكر الفرنسي جان بوبيرو والذي يعتبر من أدق التعاريف التي وجدتها، وخلاصته في ثلاثة مبادئ: استقلال مؤسسات الدولة عن السلطة الدينية وعدم تسلط أي مذهب على الدولة، وحرية المعتقد لكل فرد، وحياد الدولة تجاه المعتقدات والمساواة في الحقوق بين المذاهب والمعتقدات (المواطنة المتساوية)، وبعد نقاش كل مبدأ من تلك المبادئ وجدت أنه لا تعارض بينها وبين أصول ومبادئ الفكر الإسلامي وإن اختلفت مع بعض اجتهاداته التي لا تلزم، فصار لا مشكلة عندي في مصطلح العلمانية إذا كان بتلك الصورة كما لا مشكلة عندي في التصور الإسلامي أيضا.
لقد كان الهدف من تلك القراءة هو درء وتخفيف حدة الصراع العلماني الإسلامي الذي يستنزف كثيرا من جهودنا في قضايا هي أقرب للوهم منها للحقيقة، ولكن قد تبرز مشكلة أخرى من الطرفين، فقد يقول العلماني: إذا كان لا مشكلة بينهما فلماذا لا ننادي بالدولة العلمانية؟ وقد يقول الإسلامي: إذا كان لا مشكلة بينهما فلماذا لا ننادي بالدولة الإسلامية؟ وأقول للفريقين: إننا بهذه الطريقة سنعود للمربع الأول وسنعود إلى التمترس خلف مسميات تاركين وراءنا روحها الذي يمكننا من العيش سويا على هذه البقعة من الأرض!
لقد عادت بي الذاكرة إلى ذروة ثورات العربي حين خرج الشباب من مختلف التيارات رافعين شعارا تجاوز المسميات السابقة، لقد كانوا ينادون بصوت واحدا “نريد الدولة المدنية”، فما هي تلك المدنية التي يريدونها؟ وهل هناك صيغة جاهزة لمسمى “الدولة المدنية” أم بإمكاننا أن نصيغها من واقع مشكلاتنا وصراعاتنا ؟ وهل يمكن أن تكون تلك الصيغة بديلا عن المسميات السابقة؟
بعد تأمل وتفكير ومحاولة للتنظير وجدت أن مصطلح “المدنية” هو المصطلح الأدق والأشمل لمطالبنا في شكل الدولة التي نريد، ولذا سأستبعد مصطلح “العلمانية” رغم الدراسات الكثيرة التي كتبت عنها، وندرة أو ربما انعدام الكتابة في فلسفة “الدولة المدنية”، إذ الأدبيات الغربية تتحدث عن مجتمع مدني لا دولة مدنية، لكن ذلك لا يهم أذا كنا سننحت مصطلحا من واقع مشكلاتنا السياسية يكون هو الأقرب والأشمل. لقد وجدت أن هناك مجموعة من الأسباب دفعتني وربما تدفع القارئ معي لنجعل من ذلك المصطلح “المدنية” شعارا لمطالبنا في هذا الفترة التي يراد لها أن تذهب بعيدا عما يريده أولئك الثائرون، فربما يراد بهم العودة إلى أسوأ مما كنا عليه، فما هي تلك الأسباب التي جعلتني أرجح مصطلح “المدنية” على “العلمانية”؟
أولا: ما يحمله مصطلح العلمانية من حمولات سلبية في ذهن الشارع العربي الإسلامي، وخاصة وأن تلك الحمولات تجد لها ما يؤيدها في أدبيات الفكر الغربي، فالعلمانية في الفكر الغربي لها عدة أبعاد وتعاريف يرصدها كل باحث من زاويته. وهذا ما جعلني أكرر باستمرار أن ما أعنيه من علمانية هو بعدها السياسي فقط، حتى لا يختلط على القارئ مع الأبعاد الأخرى والتي قد تتسع لتستبعد كل مظاهر الدين في الحياة العامة، كما هي العلمانية الصلبة والتي من أبرز دعاتها (ريجيس دوبري)، وهي بعكس العلمانية التعددية المنفتحة التي تتكيف مع التعددية الثقافية وتسمح بظهور الدين في الحياة العامة، وأبرز دعاتها (جان بوبيرو).
ثانيا: الاختلاف الوارد في المعجم العربي حول ترجمة المصطلح الإنجليزي “سيكولار secularism”، والمصطلح الفرنسي “لائيك laïcité”، وذهاب كثير من الباحثين إلى أن ترجمة ذلك بـ”العلمانية” لم يكن دقيقا، وقد ذهبوا في ترجمة كل واحد منهما مذاهب مختلفة فبعضهم ترجمها بــ دنيوية وبعضهم زمانية وبعضهم دهرية، وغياب هذه الدقة في الترجمة سمحت بثغرات تضعف حجة مطالبيها.
ثالثا (وهو الأهم): إن المتأمل لمشكلاتنا السياسية سيجد أن استقلال مؤسسات الدولة عن السلطة الدينية ليس مشكلتنا الوحيدة، ففي سياقنا السياسي تبرز مشكلات أخرى في استقلال مؤسسات الدولة ربما تكون أكثر ملاصقة لواقعنا السياسي، إذ سنحتاج أيضا إلى استقلال مؤسسات الدولة عن سلطة “العسكر” الذين استحذوا بالانقلابات على السلطة لعقود مضت، فكان استقلال مؤسسات الدولة عنهم مبدأ مهماً لإقامة دولة ديمقراطية حديثة، كما أننا سنحتاج أيضا إلى استقلال مؤسسات الدولة عن سلطة “القبلية” التي تتوسع في بعض الدول العربية لتأخذ مساحة في السلطة السياسية وبلادنا أكبر مثل على ذلك، ولما كنا بحاجة إلى استقلالين آخرين مهمين رجحت مصطلح “المدنية” على مصطلح “العلمانية” الذي كان يتحدث عن استقلال واحد فقط، ولكن هل مصطلح “الدولة المدنية” يمكن أن يحمل تلك المعاني؟
إذا توقفنا عند مفهوم “الدولة المدنية” سنجد أنه مفهوم مركب من مفهومين: هما “الدولة” و”المدنية”, والدولة كمصطلح سياسي تعرف بأنها “مجموعة من الأفراد (الشعب)، يعيشون على إقليم محدد (الأرض)، ويخضعون لسلطة سياسية حاكمة (الحكومة)، وتتمتع بالاعتراف الدولي كشرط للتمتع بالصفة الدولية”. أما مفهوم “المدنية” فهو من الناحية اللغوية ينسب إلى “المدينة” وتدل على نمط الحياة في المدينة، معبرة عن العناصر الظاهرة الفعالة المحركة من بين عناصر الحضارة المدينة، ولمزيد من فهم دلالة هذه الكلمة دعونا نقف على ما يقابلها من كلمات، إذ تستعمل في الساحة الثقافية اليوم في مقابل كلمتين هما:
1. مقابل البداوة: وهنا ستعرّف الدولة المدنية بأنها الدولة المتحضرة التي تنتشر فيها مظاهر الحياة العمرانية والثقافية في مقابل الدول المتخلفة حضارياً والتي لا زالت تعيش نمط القبيلة.
2. مقابل العسكرية: وهنا ستعرّف الدولة المدنية بأنها الدولة التي يتولى الحكم فيها حاكم مدني، بنظم دستورية لتولي الحكم، وليس عن طريق الانقلابات العسكرية والاستيلاء على الحكم بالقوة.
إذن فالدولة المدنيّة هي الدولة التي يتم فيها: استقلال السلطة السياسية ومؤسسات الدولة عن السلطة الدينية وسلطة العسكر وسلطة القبيلة، بالإضافة إلى العنصرين الآخرين من حرية المعتقد لكل فرد، والمواطنة المتساوية، وسأوضح في المقال القادم إن شاء الله الخطوات العملية التي يمكن أن تحقق ذلك.