كتابات خاصة

ذروة الفضائل

أحمد الرافعي

جاءتني ذات مساء في وقت لا تخرج فيه النساء إلى بيوت الآخرين، ترجوني أن أفعل شيئاً لابنها الذي بدأ يتفلَّت من محاضن الصلاح ويخالط شلة من رفقاء السوء، وأنَّ علاقته ساءت مع أبيه بعد تركه للدراسة. قصه من وحي الواقع

كانت أُمُّهُ تتمناه سالكاً لدروب الفضيلة، مثلها ومثل أبيه وأخيه  الأكبر .
جاءتني ذات مساء في وقت لا تخرج فيه النساء إلى بيوت الآخرين، ترجوني أن أفعل شيئاً لابنها الذي بدأ يتفلَّت من محاضن الصلاح ويخالط شلة من رفقاء السوء، وأنَّ علاقته ساءت مع أبيه بعد تركه للدراسة.
كانت اماً مرهفة تجاه أي شبح انحراف قد يهدد فلذة كبدها في المستقبل.
أتذكر كلماتها:
“الله يحفظك يا استاذ هو يحبك ويحترمك”.. اجلس معه، خايفه يمتسخ (ينحرف)!
طمأنتها بأني أعرف (…. ) ابنها جيداً.. ووعدتها بالجلوس معه.
وفي عصر يومٍ تالٍ جلست مع ابنها وكان شقيقه الأكبر معنا.. ضحكنا وبطريقة غير مباشرة ترجمت له مخاوف والدته التي تبالغ في التعاطي مع مؤشرات إنحرافه.. ومخاوفنا جميعاً من انقطاعه عن البكالوريوس ومن شلته الجديدة.
ضحك ببراءة خجولة، وضحكتُ بعاطفة المحب واتفقنا أن ينتقل من بيئته هنا إلى صنعاء ليكمل دراسة العلوم السياسية أو الإعلام.. وكان هذا ما كان .
زرته بعد مرور سنة في غرفته في صنعاء في  السنينة.. وكان على طاولة مذاكرته ملازم الإعلام وكتاب يحكي قصة حياة (ناجي العلي).
عرفت أنه تجاوز السنة الأولى بنجاح، وأنه يعدُّ نفسه للثانية.. اتصلت لوالدته ابشرها بانها اساءت الظن بولدها في الماضي، وأن ابنها من أفضل الشباب الذين قابلتهم في حياتي، وكان نصيبي من هذه البشارة دعوات صادقة من قلب نقي مؤمن لأمٍ تحب اليمن وتحب ولدها.
 كان ذلك قبل سبتمبر المشؤوم الذي انخرط بعده صديقي اعلامياً يتصدى لهذا الوباء الذي اجتاح اليمن.
 في صنعاء خاض صديقي معركته الوطنية في وجه ميليشيا الخراب، وكنت أرقب أخباره ويطرب قلبي لهذا القلب الشجاع.
وفي يومٍ ما اقتحمت الميليشيا غرفته، وأقتادته إلى سجونها وإلى وقت كتابة هذا المقال ما يزال صديقي في السجن.
ككلِّ الاُّمهاتِ ورغم مرضها لم تترك والدته باباً إلا طرقته.
يعرف اليمنيون كم هي مضنيهٌ وطويله رحلة الأم الباحثة عن وسيلة للإفراج عن ولدها المختطف، الذي انتقل إلى أربعة سجون ما بين الانفرادي والجماعي، ولاقى من أذى السجَّان وصنوف الإمتهان الشيئ الكثير، وساءت حالته الصحية.
بمفردها تذرع شوارع صنعاء ما بين السجن وبيوت الظلمة ومكاتب الحوثيين.
 بمفردها، إذ أن أباه مهدد بالاختطاف وأقرباءه أيضاً.
وجه والدته المرهق وتهدج صوت والده وهو يحكي لي في إحدى لقاءاتي العابرة معه أمنيته بأن يراه مرة واحدة في الواقع بدلاً من رؤيته كل يوم في المنام.! يحكي بجلاء معاناة أسرة مختطف يوقعه القدر هذه الأيام في قبضة الميليشيا.
ذات يوم حدثتني أن ابنها أسرَّ لها بأن أعظم عذاباته رؤيتها تستجدي سجّانيه أو تقف على عتبات بيوتهم.
قال لها بحزم: (ارجعي يا امي إلى البيت، وما قدر الله لي سآخذه).
 وبعد كل زيارة لبطلنا تتصل بي تبلغني سلامه  .
كان أكثر ما هزني وأبكاني هو أني لم أعرف في صوت والدته ذرة وهن أو استكانه أو ندم يأكل قلبها المشبوب بالعاطفة والرحمة؛ رغم تعبها الجسدي كانت روحها منتعشة بالفخر والجذل من قوة احتمال صبيها رغم كِبَر التجربة وحداثة سنِّه.
وفي ذات يوم اتصلت لي بعد زيارة ولدها، ومازحتها: بانَّه ربما لو انحرف وواصل مع شلته القديمة ما قادته هذه الطريق نحو السجن.
قلت لها بمرارة: هل أخطأنا يوم أن علمناه حب الفضيلة وهوى الأوطان؟!
ضحكت من دعابتي وعاتبتني على سؤالي المرير..
قالت وقد تعافى صوتها الجريح:
 إن ما قاد ولدها نحو السجن هو حب اليمن، وهو في نظرها ذروة الفضائل!
قالت لي أيضاً: إنها تحمد الله وتشكرني أني انقذت ولدها من الضياع والانحراف.
انتهت المكالمة وقلبي الباكي  يردد: إن هذه التضحيات هي التي ستقي مستقبلنا من الإنحراف  وهي من ستأخذ بيد الوطن عن السير في دروب التيه والضياع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى