آراء ومواقف

غزة وجدليَّتا النصر والهزيمة

نبيل البكيري

 

على مدى ما يقارب ٤٧١ يوماً، وقفت غزة وحيدةً صامدةً تواجه مصيرها، كآخر بقعة تتموضع عليها القضية الفلسطينية، بعد أن تم تدجين العالم العربي كله وصولاً إلى تدجين فلسطين نفسها بقيادة أكثر صهيونية من الصهيونية نفسها، لا هدف لها سوى أن تُنسي الفلسطينيين والعالم كله شيئاً اسمه فلسطين والقضية الفلسطينية.

وفي لحظة فاصلة، بعد أن أوشك الصهاينة على تحقيق كل ما يريدون من طمر القضية الفلسطينية ودفنها؛ فجأة تفجر طوفان الأقصى في لحظة مفصلية تاريخية حاسمة في تاريخ المنطقة، وتاريخ القضية الفلسطينية تحديداً، كردة فعل على كل الجهود المحمومة لدفن هذه القضية وتشييعها إلى المقبرة، فإذا بعملية طوفان الأقصى تعيد كل شيء إلى نقطة الصفر من جديد؛ تعيد قضية فلسطينية تطوف بأصدائها المعمورة، وتدخل كل الأروقة الدولية والأكاديمية والفنية والشعبية، بسردية متكاملة وواضحة كل الوضوح، ولأول مرة في تاريخها.

وفي الطرف الآخر، نسفت طوفان الأقصى كل السردية الصهيونية التي بنت إسرائيل عليها قصة وجودها، تلك السردية الأسطورية للدولة اليهودية بجيشها الذي لا يقهر… كل ذلك تبخر مع فجر يوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م، فهُزم الجيش الإسرائيلي هزيمة مذلة، ولأول مرة تم اختراقه وكسر هيبته وصورته الأسطورية، التي كُسرت من خلالها صورة الغرب عموماً.

لم تقف تداعيات ٧ أكتوبر عند كسر الصورة النمطية المؤسطرة للدولة الصهيونية، بل تمادت التداعيات لتجرف في طريقها كل السرديات المحيطة بالمنطقة والقضية الفلسطينية تحديداً، لقد ضربت عملية طوفان الأقصى الأوهام بعنف، وكشفت الغطاء عن أُطر وهياكل قائمة تستمد حضورها من فكرة المقاومة الفلسطينية، فنسفتها لحظة ٧ أكتوبر من جذورها، كما هو الحال مع محور ما كان يُسمى بالمقاومة، الذي نسفته ٧ أكتوبر من جذوره، ولم تقف هناك بل ذهبت أبعد من ذلك ونسفت صور الغرب “الإنساني المدني المتحضر والحضاري”، وقدمته بصورته الطبيعية كغرب استعماري كولونيالي همجي متلفع بأستار الديمقراطية والحرية والإنسانية المزيفة.

واليوم، وبعد ما يقارب عاماً ونصف العام من حرب إبادة متوحشة، تشنها إسرائيل بدعم وإسناد غربيين واضحين ضد غزة، كانت أهدافها واضحة وضوح الشمس، وهي القضاء على المقاومة الفلسطينية، وإطلاق الأسرى الصهاينة، وتهجير سكان غزة إلى سيناء، وقتل أكبر قدر ممكن من الغزاويين، وتدمير القطاع كله عن بكرة أبيه… بعد كل هذا، صحيح -ربما- أنه تحقق الهدفان الأخيران، وهما الإبادة الجماعية وتدمير القطاع، لكن الأهداف الرئيسية لخطة الجنرالات لم يتحقق شيء منها، وفيها إنهاء المقاومة وتهجير السكان وإطلاق الأسرى، وهذه هي النقاط الرئيسية في الاستراتيجية الإسرائيلية، التي أجبر عدم تحقيقها الصهاينة على التوقيع على وقف إطلاق النار، والجلوس إلى طاولة المفاوضات مع جماعة إرهابية، بحسب وصفهم.

وهنا، وبعيداً عن جدلية النصر والهزيمة بمعناها المادي، فإن ما جرى في غزة شيء مهول وأسطوري، لا يمكن حسبانه بأي مقاييس مادية مجردة، وهو أن يبقى شعب غزة على قيد الحياة بكل جراحه ودمائه النازفة، بعد معركة ضارية لا سلاح لهم فيها سوى عدالة قضيتهم، وأن ينجوا بعد ذلك رغم ما هم عليه من خسارات وتضحيات، فحتماً إنهم منتصرون.

إن بقاء الغزاويين وقوفاً في قطاعهم المدمر والمحاصر بالخوف والجوع والخراب، بكل أشلائهم الممزقة وجراحهم النازفة، دون أن يستسلموا أو حتى يفكروا بالاستسلام، ذلك يعني أنهم منتصرون حتماً… أن يخذلهم الجميع، ويتركونهم يواجهون مصيرهم وحيدين مكشوفين، ويثبتوا كل هذا الوقت رغم كل هذا الخذلان، هذا معناه أنهم  منتصرون… أن يبقوا في وجه كل هذه القوة الهمجية المتغطرسة الغاشمة والخرساء صامدين محتسبين، هذا يعني أنهم لا شك منتصرون.

فالنصر والهزيمة لا يقاسان بعدد الضحايا والأشلاء والأعيان المدمرة، وإنما بمدى صمودك وتماسكك وجسارتك، وبقائك واقفاً  ممسكاً بخيط حقك، تقاوم كل صنوف القهر والإذلال والظلم والخذلان، هذا في حد ذاته انتصار وإن كان بطعم الهزيمة، يريكم التعافي ويضمد الجراح ويقلل مرارة الفقدان والخسارات والتضحيات الكبيرة والعظيمة في سبيل القضية.

قد لا يعني النصر أن تسحق خصمك وتحرر أراضيك وتمضى لإعلان الاستقلال، وإنما أن تخوض معركة غير متكافئة وتخرج منها واقفاً على قدميك الممزقتين متماسكاً وبرباطة جأش، لم تذَلّ ولم تُهزم من الداخل!. هذا هو في حد ذاته انتصار وإن كان بطعم الهزيمة. يبقى أنك منتصر تداوي جراحك، وتمضي مستأنفاً مشوار نضالك منجزاً خطوة إلى الإمام، لتبني عليها وتراكم كفاحك حتى النهاية؛ فالحروب مسار طويل من النصر والهزيمة، وقد يحسب عدوك جولة أو جولتين، لكنه حتماً لن يكسب الحرب ببعدها الأخلاقي والاستراتيجي في النهاية، وإن ما لم تنجزه بالحرب قد تنجزه بالسياسة.

أما حالة الخذلان التي عاشها أهل غزة، فهي كانت كاشفة لكل الأطراف العربية مدى تورطها في صف العدوان، باستثناء الموقف القطري الذي ربما صمد حتى النهاية، ولم يتغير ولم يتبدل في سبيل إنهاء الحرب والحصار على القطاع، وهو دور تكلل بالدفع نحو وقف إطلاق النار، الذي ساهمت في الوصول إليه أيضا ضغوط أمريكية كبيرة على الإدارة الإسرائيلية للقبول بوقف إطلاق النار، لإدراك الأمريكان أن الإدارة الإسرائيلية تمر بأصعب أيامها، وأن ما جرى في غزة يعكس حالة الضعف والهزيمة التي منيت بها الحكومة الإسرائيلية.

وختاماً، نقول إن الذين ينظرون إلى غزة بالمقاييس المادية المحسوسة فإنهم يظلمون أنفسهم أولاً، ويظلمون المقاومة ويعبثون بكل معانى النصر والهزيمة، فمعاييرنا ليست بالضرورة هي معايير العدو ولا معايير العالم من حولنا، فمعاييرنا في جزء كبير منها معايير معنوية وإيمانية بحته ومجردة، أما النصر فهو حساب إلهي لا تصنعه القوة القاهرة والصلبة وحدها، وإنما الإيمان وعدالة القضية، وكفاحك الدائب حتى النهاية، وعدم اليأس والتشكي والتذمر؛ فكل معركة هي جولة على طريق النصر الكبير حتماً، اليوم أو غداً، طال الزمن أو قصر.. وما النصر إلا من عند الله.

*نشر أولاً في “مدونة العرب”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى