عبر تاريخها الطويل، عاشت «الإمامة الزيدية» فترات انقطاع محدودة، وعلى مراحل مُتفرقة، لا تتجاوز الـ «100» عام، والمُصيبة أنها بعد كل انكماشة تعود لتتمدد بقوة، كان انقطاعها الأطول في عهد «الدولة الصليحية»، مُحيت حينها تماماً من الخريطة، حتى وصلتها من «بلاد فارس» دعوة؛ أعادت رسمها من جديد. عبر تاريخها الطويل، عاشت «الإمامة الزيدية» فترات انقطاع محدودة، وعلى مراحل مُتفرقة، لا تتجاوز الـ «100» عام، والمُصيبة أنها بعد كل انكماشة تعود لتتمدد بقوة، كان انقطاعها الأطول في عهد «الدولة الصليحية»، مُحيت حينها تماماً من الخريطة، حتى وصلتها من «بلاد فارس» دعوة؛ أعادت رسمها من جديد.
استقلت صنعاء عن حكم الصليحيين «492هـ»، وحكمتها ثلاث أسر همدانية إسماعيلية، «آل الغشيم، وآل القبيب، وآل اليامي»، الأخيرة هي الأشهر، وهي أسرة عريقة، ناصرت الصليحيين بادئ الأمر، وكان عمران اليامي واليهم على صنعاء، ساندهم في حربهم ضد النجاحيين، ولقي مصرعه وهو يقاتل في صفوفهم «479هـ».
أمام حضور الإسماعلية الطاغي، أختفى دعاة الإمامة الزيدية، وانكفأ أنصارها على أنفسهم، حتى دولتهم في «طبرستان»، كانت قريبة من ذات المصير، ليجدد حضورها من «جيلان» الإمام «المؤيد» يحيى بن أحمد «502هـ»، أرسل بعد «9» سنوات دعوته إلى اليمن، تلقفها في البدء المحسن بن أحمد، ثم المحسن بن الحسن، وهما أميران «هادويان»، وقد كشف ذلك التحول مدى الضعف الذي وصل إليه «إماميوا اليمن» في تلك الفترة.
ثمة أحداث سابقة وتالية تؤكد شيوع ذلك الترابط بين الدولتين الإماميتين، وهذا الإمام الطاغية عبدالله بن حمزة، بعث في بداية القرن التالي دعاته إلى بلاد «الديلم» و«جيلان»، وخطب له هنالك، وعبر عن ذلك شعراً:
قل لبني العباس ما بالكم
لا تلحظونا لحظ رجحان
وقل تخطتكم لنا دعوةٌ
جالت على أقطار جيلان
بالعودة إلى الأميرين «ابن أحمد» و«ابن الحسن»، فقد استقل الأخير بالأمر، وأعلن نفسه إماماً، حارب الصليحيين، وكانت نهايته مقتولاً في صعدة، على يد سكانها، أما الأول فقد دخل بعد وفاة الإمام الفارسي «520هـ»، في صراع مع ابن عمه «الداعي» علي المليح، الذي أعلن نفسه هو الآخر إماماً، إلا أن أمرها لم يستقر لكليهما، وقد كانت نهاية الأخير قتيلاً في «شظب»، على يد الصليحيين «531هـ».
بوفاة السيدة أروى بنت أحمد الصليحي«532هـ»، انتهت «الدولة الصليحية»، فيما ظلت الاسماعيلية كدعوة حاضرة في بعض المناطق، وكان لها دولتان، «آل زريع» في عدن، و«آل اليامي» في صنعاء، وقد أجمعت همدان في العام التالي على اختيار حاتم بن أحمد بن عمران اليامي، سلطاناً عليهم.
في نفس العام، أعلن الشاب أحمد بن سليمان نفسه إماماً، وتلقب بـ «المتوكل»، أجابته قبائل «الجوف، وصعدة، ونجران، وبلاد الظاهر، وعيان، ووداعه»، وغيرها من مناطق شمال الشمال، كان بطاشاً عنيفاً، و«جارودياً» مُتعصباً، بدليل قوله: «وعندنا أن من تقدم أمير المؤمنين علي عليه السلام، أو قدم عليه بعد النبي، فقد ظلمه، وجحد حقه، وهو كافر نعمة، فاسق ظالم».
بل أنه ولشدة عنصريته، حرم زواج «الهاشمية» من غير «الهاشمي»؛ وهو تصرف لم يقول به جده الإمام «الهادي»، الذي زوج بناته من «الطبريين»؛ والأسوأ من ذلك، تكفيره لمعارضيه، وإباحته قتل من يجيز الإمامة في غير البطنين، واتخاذه لسياسة «فرق تسد» بين القبائل اليمنية، بدليل قوله:
ولأقتلن قبيلة بقبيلةٍ
ولأسلبنَّ من العدا أرواحا
ولأكسون الأرض عما سرعة
نقعاً مثاراً أو دماً سفاحا
ولأمطرن عليهم سهاماً
تدع البلاد من الدما أقداحا
دخل «ابن سليمان» في مواجهات فكرية، ومساجلات شعرية مع الثائر نشوان الحميري، وقد هجاه الأخير بقوله:
عجائب الدهر أشتات وأعجبها
إمامة نشأت في ابن الخذيريف
ما أحمد بن سليمان بمؤتمن
على البرية في خيط من الصوف
تجدد الصراع بين الهمدانيين ودولة الإمامة، وزاد من تعميقه أكثر، خلافهم المذهبي، كانت «بركة الجوب» بـ «قاع البون»، الحد الفاصل بين الدولتين، كما كان لـ «اليامي» و«ابن سليمان» طموحاتهم التوسعية، في ميراث أراضي «الدولة الصليحية»، ليتجه الأخير بعد «13» عاماً من الإمامة صوب عمران، وقد انضمت لمناصرته قبائل «بني شهاب، وحضور، وجنب، وسنحان».
عسكر في «بيت بوس»، ومن هناك ارسل أحد جواسيسه إلى المدينة المحاصرة، لمعرفة أحوالها، ولتحريض «الزيدية» فيها، مُتذرعاً بشراء بعض الورق، إلا أن «اليامي» فضح أمره، وصفح عنه، وأرسل معه شعراً:
أبالورق الطلحي تأخذ أرضنا
ولم تشتجر تحت العجاج رماح
وتأخذ صنعاء وهي كرسي ملكنا
ونحن بأطراف البلاد شحاح
خذلت «همدان» سلطانها، وخذلته «الزيدية» أيضاً، من سكان المدينة المحاصرة، تمت لـ «ابن سليمان» السيطرة التامة عليها، وعاث فيها نهباً وخراباً، هدم دار سلطانها، التي لا يوجد مثلها في البلاد، ليتمكن «اليامي» في العام التالي، بعد محاولتين فاشلتين، من استعادتها، فيما ظل محيطها بيد «ابن سليمان»، التقيا في بلاد «الخشب»، واتفقا على إنهاء الحرب، وترك الحرية المذهبية لسكان المدينة المنكوبة.
تجددت الحرب بين الطرفين «550هـ»، اتجه «ابن سليمان» صوب ذمار، جمع «3,000» مقاتل، استعد «اليامي» للمواجهة، وفي منطقة «شرزة» بـ «سنحان»، دارت معركة كبرى، انتصر فيها الإمام، إلا أنه لم يستطع السيطرة على صنعاء، لتتجدد المصالحة بينهما «553هـ»، على نفس شروط المصالحة الأولى.
مع نهاية ذات العام، استنجد أهالي زبيد بـ «ابن سليمان»، لنصرتهم ضد علي بن مهدي، الذي بدأ بشن الغارات عليهم، ساعياً لتثبيت دولته على أنقاض «الدولة النجاحية»، طلب «ابن سليمان» منهم قتل مولاهم «فاتك»، ففعلوا؛ دخل المدينة، فبدأ عساكره بنهبها، بتحريض من الشيخ جابر الجنبي؛ وحين عزم على الخروج لمواجهة «ابن مهدي»، تقاعس بعض العسكر، أغلق عليهم المواطنون المنهوبون أبواب المدينة، تراجع الإمام عن نصرتهم، وعاد إلى ذمار، لتسقط زبيد في العام التالي، وبدأت بذلك دولة «بني مهدي».
وفي ذمار عزم «ابن سليمان» على غزو «اليمن الأسفل»، إلا أنه عاد وغير رأيه، الأمر الذي أغضب أنصاره، خاصة أولئك الذين ذاقوا حلاوة «الفيد» في زبيد، ولذات السبب خاطبه أبناء قبيلة «جنب» بالقول: «لا تحرمنا من أخذ أموال الظلمة، فنحن لك جند، فتتألفنا بها، فإنا لا نعدها إلا منك».
هدأت التوترات، وتحسنت العلاقات بين «آل اليامي» و«ابن سليمان»، وصار بينهما مراسلات، وتحالفات، وهدايا، خاصة بعد تولي علي بن حاتم حكم صنعاء، بعد وفاة أبيه «556هـ»، وحين تمرد سكان صعدة في العام التالي على إمامهم، أرسل الأخير ولده «المطهر» إلى سلطان «همدان» الجديد، طالباً النجدة، فأنجده.
توالت التمردات بعد ذلك على «ابن سليمان»، وحين خرج «565هـ» لملاقاة بعض العصاة، اعترض طريقه أنصار الشريف فليته بن قاسم العياني، وكانوا على خلاف معه، اقتادوه إلى «خمر»، وسجنوه بقلعتها، استنجد أولاده بـ «اليامي»، توسط له عند خاطفيه، فأفرجوا عنه، ليتوجه من فوره إلى صنعاء؛ مُقدماً شكره وعظيم امتنانه لأعداء الأمس!!.
في كتابه «تاريخ اليمن الفكري» أنتقد أحمد محمد الشامي تصرف «ابن سليمان»، رغم أنه عده من كبار الأئمة، وأغزرهم تأليفاً، كما انتقد أولاده وأحفاد الإمام «العياني»، معتبراً ما حدث بالمثال البشع، الذي تخزي له وجوه الطامعين، مؤكداً أن الأسى جراء ذلك لسع الإمام المنكوب، والعمى أصابه، ليموت بداية العام التالي كمداً، بمدينة «حوث»، عن «65» عاماً، وذلك قبل التواجد الأيوبي بـ «3» سنوات.
>> المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “يمن مونيتور”.